آخر ما قرأت من كتابة في حب باريس هو كتاب «ذكريات باريسية» للكاتبة والروائية الأمريكية ديردر بير. وهو كتاب يخوض في سيرة الكاتبين الأيرلندي ـ الباريسي صموئيل بيكت، صاحب العمل المسرحي الشهير» في انتظار غودو» والفرنسية الباريسية الوجودية سيمون دي بوفوار، رفيقة سارتر، والكاتبة النسائية المثيرة للجدل، صاحبة «الجنس الآخر».
تستفيض الكاتبة والباحثة والصحافية ديردر بير، بأحاديث وجوانب ومشاهد تفصيلية، عن عملها الذي تبدأ به مع صموئيل بيكت، هذا الكاتب المحيّر والمثير للتساؤلات، والجدل، والتكهنات السلبية والإيجابية حول عمله، فهو مثل غيره من المشاهير لديه خصوم مشاكسون، ونقاد برِمون، ومتابعون لكلّ تفصيل صغير في أعماله وحياته كذلك، فمعروف عن صموئيل بيكت العزلة، وعدم الظهور والاختلاط ومشاركة الآخرين حياتهم، إلا في ما ندر، ومع قلة من أصدقائه المقرّبين، أو عائلته وأقربائه المبعثرين، بين دبلن والمدن الأيرلندية، أو أصدقائه الموزّعين ما بين دبلن وأكسفورد، حيث درس في مطالع شبابه هناك، وتحصّل على علومه الجامعية. فهو على نحو عام منصرف إلى الكتابة، ما بين التأليف المسرحي والروائي، فهما يشكلان عالمه وحياته، ففيهما تكمن كل يوميّاته وتفاصيله، ورؤاه الكبيرة حول الحياة والوجود والعدم، فهو وجودي من طراز خاص، وعمله «في انتظار غودو» يشهد على هذه السمة التي ميّزت غالبية أبناء جيله،. وهو قد تورّط في الوجودية من خلال كتاباته، دون انتسابه إليها، كمفهوم وسياق أدبي ونظري، سارتري، كامَوي، أو ديبوفواري. فهو بطبيعته انعزالي، يؤثر الانفراد بشخصه غالباً، منطوياً على هواجسه، ومشاعره ورؤاه وإشراقاته التي توفّر له عالماً وحدانياً تمخر في شطآنه باخرة أحلامه، وهي الأفكار، والتفاصيل، والأزمنة وخط سيرها في الأمكنة التي عبرها وعاصرها منذ صغره في دبلن، حتى شيخوخته في الأزقة الباريسية، وهو يخوض غمار معاركه الرؤيوية بين روّاد كبار للمسرح والفلسفة والرواية والشعر، فكان هناك بريتون وإيلوار وأراغون وبيكاسو، وسلفادور دالي وسارتر وكامو وسيمون دوبوفوار، وجيمس جويس وفرجينيا وولف، وكانت إلى جانب كل هؤلاء صحف ومجلات ووكالات إعلام وتلفزيون وسينما، تروّج لهذا وذاك، وتنتقد بشكل مسنون وحاد هذا وذاك. كانت الماكنة الإعلامية ترفع وتحط، وتمنح وتأخذ، تسلط الضوء في وقت معيّن على أحدهم، ثمّ تسحب الضوء عنه متى تشاء، فهي تعمل حسب الموازين، وارتفاع سهم مؤلف ما، وهبوط مؤشر كاتب آخر. من أجل كتابة سيرة صموئيل بيكت، احتاجت ديردر أن تسافر عشرات المرّات، ما بين باريس وأمريكا ونيويورك ودبلن ولندن وأكسفورد، فزارت عشرات المتاحف، والمكاتب، والجامعات، ودور النشر، بغية الحصول على وثيقة، أو معلومة، أو شهادة من أحدهم كان قد عاصر بيكت لفترة معيّنة، في مسرح مع ممثلين ومخرجين، أو أصدقاء طلبة ممن درسوا معه، أو من عائلة بيكت المتناثرة في أرجاء أيرلندا، من أجل الوصول إلى سند ما يدعم مقولة معيّنة، أو رأياً ما، أو وثيقة تخص حياته الشخصية، من نساء تعرّف عليهنّ، وعبرن حياته في أوقات مراهقته وشبابه، أو من زيجة سرّية من امرأة أشهرت حبّها له، وجاهرت كثيراً بهذا الحب، هذا عدا عن زوجته الحقيقية سوزان، تلك التي عرضت مخطوطة كتاب بيكت على دور النشر، لكن الكتاب رفض من اثنتين وأربعين داراً للنشر، وكان ذلك هو كتابه الأول، رواية «مورفي» لكن اللافت في هذا الرفض، أن جميع الناشرين ندموا على فعلتهم تلك، بعد أن أخذ صموئيل بيكت يتدرّج في سلم الشهرة، حتى وصوله لنيل جائزة نوبل، أكبر جائزة في العالم. لقد حدث كل هذا مع مزاج بيكت المتقلب والمُعذّب والمُدمِّر، فهو صعب المراس، وليس من السهل اختراقه لمن يسعى إليه ويحاول أن يقترب من عالمه، المحفوف بالصمت والعزلة، أو بالمزاج المتحرّك وغير الثابت، فضلاً عن طبيعته الخجولة، وهو الذي قال لها، أي لديردر كاتبة سيرته، في أول لقاء لها معه، في جملة لن تنساها أبداً إنه: «لن يساعدها في عملها هذا، لكنه أيضاً لن يعيق هذا العمل».
من جهة أخرى لبيكت خصاله الثانية، إهابه ومقدرته على لفت النظر، جاذبيته الخاصة، حضوره اللافت، وذكاؤه الثقافي، فالكاتبة ديردر فتاة نشيطة، صحافية وأستاذة جامعية، ولها علاقات واسعة مع عالم دور النشر والصحافة، بالإضافة الى كونها أماً وزوجة شخص يعمل في شؤون المتاحف، وله خبرة علمية وعملية في عمله، من هنا كانت مواءمتها الصعبة والنادرة والمتوفّقة الى حد معيّن، ما بين العمل الجامعي والكتابة وحياتها الزوجية، ورغم هذا وذاك، رغم العوائق، ورغم الطبيعة السايكولوجية المتغيّرة لبيكت، ورغم علاقاته المتشعّبة، والممتدة بين بلدان متباعدة، مثل باريس ونيويورك وكاليفورنيا وفيلادلفيا، وبين دبلن ولندن وبعض الولايات الأمريكية، رغم كل ما عانته، لكنها في النهاية استطاعت أن تكتب سيرة بيكت، في كتاب مثير للجدل، ممتع ومليء بمكاشفات تخص بيكت وعائلته، وتمس بيكت نفسه، ما وضعها في دائرة من السهام النقدية، الموجّهة لها وبقوة، فهاجمها بشراسة واضحة، نقاد وكتاب وصحافيون وبيكتيون كثيرون، منتشرون في كل أنحاء العالم.
حين اقتربت ديردر من نهاية كتابة سيرة بيكت، التفتت إلى سيمون دي بوفوار، الناشطة النسوية، وصديقة سارتر الأزلية، والكاتبة المتمكنة من كتابة الرؤى الجديدة في كتبها الفلسفية، مثل كتاب «الجنس الآخر» أو في رواياتها، وكانت قد التقتها بعد رحيل سارتر عن مسرح الحياة، لكنها كانت تحمل معها عنه خزينة من الذكريات، واليوميات، والحياة المشتركة، حب مشترك بين أشهر شخصيتين باريسيتين، حب الكتابة، والمطالعة، والسفر، وكذلك الولع بالفلسفة، والجدل، والتنظير، ولاسيّما من جهة الفيلسوف سارتر، وكتبه المثيرة للجدل والمشاكلة، والمناظرات الحامية في الجامعات الأوروربية والأمريكية. فسيمون ديبوفوار العاشقة، والحبيبة، والفيلسوفة، والروائية بدرجة أقل، كانت رفيقته الدائمة، رغم تعدد نسائه، وشهيته المفتوحة نحو الجنس مع الصغيرات، رغم بشاعته، ورائحته النتنة في أواخر أيامه وأنفاسه الكريهة، وتبوّله، وحتى التبرّز على نفسه، نتيجة مرض السلس البولي، لكنه كان يسهر مع الفتيات ويشرب النبيذ والويسكي، ويبذر ما في جيبه الملآن بالنقود التي كانت تأتيه من عوائد كتبه، وشهرته التي فاضت على العالم. كل هذا كان يحدث أمام مرأى سيمون ديبوفوار الرقيقة، والضئيلة حجماً، والكبيرة عقلاً، عقلها وعقل سارتر خلّفا النوادر من الكتب الأدبية في الفلسفة الوجودية والميدان الروائي.
تسرد الكاتبة وعلى نحو حكائي جذاب، في هذه السيرة الديبوفوارية، حياة امرأة مذهلة، لها مريدوها وعشاقها وقراؤها في كل أنحاء العالم، ولها ثقافة مختلفة، أهّلتها لأن تكون دائماً في الصدارة. فالكاتبة ديردر كانت تلتقيها لتحكي لها سيرتها، منذ طفولتها وحتى أيامها الأخيرة، مدرستها الأولى، عشقها للكتاب، وهي صغيرة، إضافة لما كانت ترويه أختها الرسامة، والبعض من عائلتها، وخادمتها سيلفي، وبعض صديقاتها. كما تطرقت الكاتبة أيضاً الى علاقة سيمون ديبوفوار بناشريها، وبالنقاد المتابعين لشؤونها الأدبية، وإلى شواغلها التفصيلية في الحياة اليومية.
ذكريات باريسية: ترجمة أحمد الزبيدي، دار المدى
شاعر وكاتب عراقي