ذكريات مغربية

حجم الخط
33

الدار البيضاء أغسطس/ آب 1985…انتهت القمة العربية وجاء المؤتمر الصحافي الختامي للعاهل المغربي الحسن الثاني. كانت تلك أول قمة عربية أشهدها فأعددت قائمة من الأسئلة التي يمكن أن أطرحها وشرعت في تقليب أيها أكثر قوة. بدأ المؤتمر الصحافي وبدا جليا أن مزاج الملك لم يكن على ما يرام يومها إذ شرع في «بهدلة» الصحافيين بلا رحمة. أول الضحايا على ما أذكر كانت منى نبعة مديرة مكتب وكالة الأنباء الفرنسية في المغرب العربي:
– جلالة الملك… قرارات هذه القمة لم تكن على المستوى الذي كانت تتطلبه الأوضاع وخطورة المرحلة وتحدياتها.. هل من تفسير لهذا القصور؟؟
– سيدتي لا أعتقد أن كل هؤلاء القادة العرب جاؤوا وتباحثوا في ما تباحثوا فيه وخاضوا في ما خاضوا فيه حتى تأتي حضرتك لتحكم على قراراتهم ..القرارات أتخذت ليس لتنال إعجابك أنت!!.
السؤال التالي كان لمراسل مصري لم يتمكن المسكين حتى من إكمال سؤاله بعد أن عرّف بنفسه إذ عالجه الملك بالقول، وسط دهشة الحضور: «عندما مرضت في الفترة الأخيرة ..رئيسكم لم يكلّف نفسه حتى رفع السماعة ليسأل عن أحوالي..إجلس!! من لديه سؤال آخر؟؟» نظرت إلى أسئلتي التي كنت أسعى لانتقاء أكثرها إثارة فطويتها مسرعا ودسستها في جيبي كمن اختلس لتوه ورقة نقدية ويخشي افتضاح أمره…مهمهما في سري «خليك في حالك أحسن»!!.
ربما لو كنت على دراية كافية وقتها بشخصية العاهل المغربي لما استغربت الذي حدث فالرجل شديد الاعتداد بنفسه، واسع الثقافة العربية والاسلامية والغربية، سريع البديهة، حاد الذكاء، متحدث لبق باللغتين العربية والفرنسية التي يجيدها أفضل من أهلها، قوي العبارات التي ينفثها بسهولة نفثه لدخان السجائر التي كان لا يتركها حتى خلال اللقاءات الصحافية. والأهم من كل ما سبق أنه كان يستمتع بإحراج الصحافيين، خاصة الفرنسيين منهم، الذين كان يعرف مسبقا أنهم عادة ما يأتونه بأكثر الأسئلة إحراجا وأحيانا استفزازا.
لم تكن تلك مهمتي الصحافية الأولى في المغرب فقد جئتها من قبل لنفس صحيفتي التونسية الأسبوعية «الرأي» لإجراء سلسلة مقابلات كان من أبرزها وقتها مع زعيم «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» عبد الرحيم بوعبيد إلى جانب سلسلة مقالات عن نظرة النخبة المغربية لقضية الصحراء الغربية التي هي محل إجماع وطني لامثيل له.
لم يكن ممكنا زيارة المغرب دون الالتقاء بالصحافي والكاتب خالد الجامعي الذي تعرفت عليه قبل ثلاث سنوات في مصر خلال تغطية الانسحاب الإسرائيلي من سيناء. كان مشغولا وقتها بترتيب سفر إبنه إلى الخارج للدراسة بعد حصوله على الثانوية العامة، وابنه هذا هو الذي أورثه مهنة المتاعب فظل يعاني منها طوال السنوات الماضية. وإذا كان خالد الأب المعارض المشاغب، رئيس تحرير صحيفة «لوبنيون» اليومية الناطقة بالفرنسية لسنوات، قد كتب مذكراته تحت عنوان «متهم حتى تثبت إدانته»، فإن أبو بكر الابن الذي تولى نشر صحيفتي «لو جورنال إبدومادير» و»الصحيفة الأسبوعية» وجد نفسه مع السلطات المغربية في ذات خانة الوالد المزعجة. وخالد الجامعي صديق لا ألتقيه دائما إلا صدفة، في مصر أولا ثم ذات مرة بعد ذلك في أروقة جريدة «عكاظ» السعودية في جدة، ثم بعد سنوات في اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1991 وهو الاجتماع الذي غادره كل المغاربة عائدين إلى بلادهم احتجاجا بعد ما مٌنح ممثل البوليساريو الكلمة في افتتاحه.
تشاء الصدف أن نلتقي من جديد عام 1995 قادما هذه المرة من لندن لسلسلة تحقيقات للتلفزيون العربي للبي بي سي (في نسخته الأولى التي أغلقت عام 1996 قبل أن تعود من جديد في 2008). كانت سلسلة من التقارير عن أزمة الصيد البحري مع أوروبا والهجرة غير النظامية إلى أوروبا وتجارة المخدرات و أيضا عن سبتة ومليلية اللتين وصفناهما بأنهما مغربيتان على الخارطة الجغرافية إسبانيتان على الخارطة السياسية.
وإلى المغرب نعود من جديد عام 2000 قادما من الخليج ولحساب تلفزيون آخر هو «الجزيرة» لسلسلة مقابلات كان من أبرزها مع المعارض إبراهام سرفاتي الذي تزعم أواخر الستينيات منظمة «إلى الأمام» الماركسية اللينينية والذي حكم عليه بالمؤبد عام 1975 قبل أن يبعد إلى فرنسا عام 1991 ولم يعد إلى المغرب إلا عام 1999 بمبادرة من الملك محمد السادس ليموت في مراكش بعدها بعشر سنوات، وكذلك مع المفكر والفيلسوف الشهير محمد عابد الجابري الذي له أكثر من 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها «نقد العقل العربي» وقد وافته المنية عام 2010 ، وأيضا مع عبد الهادي بوطالب أحد أبرز مستشاري الحسن الثاني لسنوات وقد توفي قبله بعام.
كان المغرب حاضرا في كل المحطات الصحافية، وكم كنت سعيدا حين صار الرباط مقر مكتب القناة للمغرب العربي ومنها تنطلق نشرة مغاربية يومية، قبل أن تقرر السلطات المغربية إغلاق المكتب في خطوة غير مفهومة خسرت هي من ورائها أكثر مما خسرت القناة .. وهذه قصة أخرى.

٭ كاتب وإعلامي تونسي

كوتيشن: العاهل المغربي شديد الاعتداد بنفسه، واسع الثقافة العربية والإسلامية والغربية، سريع البديهة، حاد الذكاء، متحدث لبق باللغتين العربية والفرنسية التي يجيدها أفضل من أهلها، قوي العبارات التي ينفثها بسهولة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رشيد ابن وزان:

    مسيرة حافلة
    صدقت في كل ما قلت
    نحن ايضا نعرفك منذ زمن و نعرف و نفخر ببراعتك الصحافية و المهنية حتى قبل ظهورك على الجزيرة و التي اتاسف لاغلاق مقرها المغاربي في الرباط، فقد كانت تلك خطوة غبية و حمقاء من المسؤولين المغاربة

  2. يقول خالد الزناتي:

    كان الملك الراحل الحسن الثاني كباقي الحكام العرب من الخليج إلى المحيط حاكما مستبدا لكن كان يتمتع بفصاحة وذكاء حاد لم يوظفه للأسف لإخراج بلده من ربقة بلدان العالم الثالث رغم امتداد حكمه 38 سنة! من مظاهر قوة شخصية الزعيم قدرته على مجاراة الإسئلة المحرجة والمستفزة للصحفيين الغربيين دون تهرب أو تلعثم, كنا وقتها رغم اختلافاتنا العميقة مع طريقة تدبير البلاط لشؤون البلد نوقن على الأقل أن الآمر الناهي هو الملك وليس حاشيته أو حكومة ظل أو جهات نافذة وراء الستر. أما إذا رأيت أن قائد بلد لا يخطب إلا وهو يقرأ ما يكتب له, ولا يجرؤ على تنظيم ولو لقاء صحافي واحد مدة عشرين سنة من الحكم فمن البديهي أن تنتشر الشكوك وتتناسل بين أوساط الشعب حول سؤال جوهري: من الحاكم الفعلي للبلد؟

    1. يقول هيثم:

      أتفق معك نسبيا معك بخصوص الحسن الثاني الذي كان يتوفر على مستشارين أفذاذ، لكنه كان يركب رأسه ويقر ما يريد رغم معا في إطار الحكم الاستبدادي الذي مارسه رغم معارضة المستشارين. محمد السادس لا يملك الثقافة و الذكاء و الدهاء و لا فن الخطابة أو الجرأة وحضور البديهة في اللقاءات مع الصحفيين مما كان الوالد يتوفر عليه، لكنه يتوفر على فريق متكامل لتخطيط الاستراتيجيات الرئيسية لسياسة الدولة في مختلف القطاعات. لاحظ مثلا سلبية الأب في سياسته الإفريقية وبراغماتية الابن في العلاقات مع بلدان القارة.

  3. يقول هيثم:

    مقال ممتع للصحفي محمد كريشان حول ذكرياته في المغرب ومع المغاربة. أود أن أدلي بالملاحظات التالية:
    – بخصوص الكوتيشن حول الحسن الثاني كان يجب أن يتضمن استبداد هذا الملك و سنوات الجمر والرصاص والحكم المطلق الذي ميز عهده ( معتقل تازمامارت نموذجا ) وأن يتضمن أيضا سمو ثقافته بالمقارنة مع الرؤساء العرب والأفارقة ناهيك عن علاقاته الدبلوماسية المتينة مع القوى الدولية الكبرى مما دفع بكثير من القادة الرئيسيين في العالم لحضور جنازته.
    – أما إغلاق مكتب الجزيرة في الرباط فكان بسبب نشر خبر غير صحيح عن أحداث في مدينة إيفني و امتناع القناة عن تكذيبه.

  4. يقول .Dinars.:

    ماذا فعل بتلك الصفات التي لم يستثمرها إلا في سنوات حكم سميت بسنوات الرصاص أو في الإستفتاء على الصحراء الغربية والتنكيل لأهلها ولم تظهر البديهة في التصدي لفرانكو أيام كان يحتل الصحراء الغربية.

  5. يقول صوت من مراكش:

    اسماء كبيرة ورد ذكرها في ذكريات الصحفي الفذ محمد كريشان المغربية جلها

    انتقل لدار البقاء بوعبيد السرفاتي الجابري بوطالب و طبعا الحسن الثاني

    لكل و احد منهم قيمة في مجاله ترى هل خلفهم رجال بنفس علو كعبهم

    تحياتي

  6. يقول رشيد الصنهاجي:

    الصورة السيئة التي تركها الملك الفاروق بمصر والسنوسي بليبيا جعلت الجملوكيات العربية تصطف في جهة واحدة ضد قضية وحدة التراب الوطني للمغرب ليس أيمانا منهم بعدالة مشروع انتزاع فرنسا الصحراء الشرقية منه وضمها لمستعمرتها السابقة الجزائر قبل استقلالها, لكن المسألة كانت بالنسبة لعبد الناصر والقذافي وأمين الحافظ فقط تختزل في مناهضة الأنظمة الملكية العربية لكونها ترمز للرجعية والإستبداد. ورث الحسن الثاني قضية معقدة بعدما كان بيد والده إمكانية حلها لما طرحت فرنسا على المغرب استرجاع أراضيه مقابل الإلتزام بعدم دعم جيش التحرير الذي كان ينطلق جزء منه وقتها من الأراضي المغربية لشن هجمات على المستعمر فرفض الملك الراحل العرض الفرنسي وطعن الأشقاء في الظهر ليدفع المغرب بعد وفاته ثمنا باهظا بفقد منطقتي تندوف وبشار.

  7. يقول رشيد الصنهاجي:

    يتبع…..اندلعت الحرب بين الجيشين المغربي والجزائري بعد فشل المفاوضات بين البلدين سنة 1963 فهبت الجملوكيات العربية لمساندة الجيش الجزائري, أرسل وقتها عبد الناصر ألف من جنوده مع بعض الضباط, وقع فريق منهم أسرى لدى الجيش المغربي وكان من بينهم عقيد في الطيران الحربي المصري يدعى حسني مبارك. حرب لم تدم طويلا لحسن الحظ وقد أشرف الإتحاد الإفريقي على توقيع المغرب والجزائر على اتفاقية وقف إطلاق النار. استضاف عبد الناصر الملك الحسن الثاني بعدها بشهر وقدمت له طفلة لدى وصوله المطار باقة ورد فقال الحسن الثاني لعبد الناصر حينها: جئتك بهدية أحسن بكثير من باقة ورد, إنهم الضباط المصريين الأسرى لدينا (من بينهم حسني مبارك). هذا لم يمنع الملك المغربي أن يرسل بعد عشر سنوات آلاف الجنود والضباط المغاربة ليقاتلوا بشراسة دفاعا عن سيناء المصرية والجولان السورية. كان الحسن الثاني رجلا شهما لكن رغبته في الإستفراد بالحكم أهدرت على المغرب فرصة دمقرطة الحياة السياسية وتحقيق إقلاع اقتصادي

  8. يقول هشام. د:

    أثار كاتب المقال فطنة الملك السابق الحسن الثاني ودهائه في مواقف معينة وهذا يشهد له به معظم من عاصروه لكن عرف عهده تجاوزات بالجملة في المجالين الحقوقي والسياسي منها المعتقلات السرية وأشهرها سجن تازمامرت الذي يحكي عنه الناجون من المعتقلين السياسيين أحداث رهيبة موثقة ومسجلة. أيضا قمع انتفاضة الخبز التي عرفتها مدينة الدار البيضاء سنة 1981 التي ذهب ضحيتها ما يقارب 800 قتيل حسب تقدير حزب التقدم والإشتراكية ثم انتفاضة مدن الريف سنة 1984 التي أعقبها الخطاب الشهير للملك الحسن الثاني الذي نعث فيه المتظاهرين بالأوباش, كما عرفت انتفاضة فاس لسنة 1990 موجة قمع عنيف واعتقالات. كل هاته الإنتفاضات الشعبية خرجت بدعوة وتأطير من النقابات الوطنية وكانت مطالبها مشروعة تنحصر في رفض ارتفاع أسعار المواد الأساسية والدفاع عن حقوق الطبقة الشغيلة لكن الحسن الثاني واجهها بقوة الرصاص حسب ما كشفته تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة.

  9. يقول احمد السنوسي:

    مفارقة أثارها الصحفي المرموق محمد كريشان في معرض حديثه عن الإعلامي المعروف بالمغرب السيد خالد الجامعي الذي نقل عدوى مهنة المتاعب لابنه أبو بكر الجامعي وهو يعلم يقينا أن الطريق التي تنتظر إبنه مليئة بالإكراهات والمصاعب. في حقبة حكم الحسن الثاني كان التعامل السائد مع الصحفيين “المشاكسين” يتراوح بين الإعتقالات والتصفية, أما في العهد الجديد فالأسلوب المعتمد هو التضييق والتصفية المعنوية وذاك ما تعرض له الإعلامي الإبن منذ سنوات مما اضطره إلى اختيار مغادرة أرض الوطن وهو الحائز على جائزة دولية لحرية الصحافة.

    1. يقول عبد الكريم البيضاوي:

      الأخ أحمد السنوسي , إن كنت أنت أحمد السنوسي الممثل والمناضل المغربي , فلك سلام من عبد الكريم لحلو.

    2. يقول أحمد السنوسي:

      الفنان المناضل أحمد السنوسي معلمة في الوسط الفني بالمغرب عز نظيرها, من الثلة القليلة الذي لم يبع مبادئه بحفنة دراهم, منذ أن عاينت أول عمل فني له داخل أسوار جامعة فاس في بداية التسعينات كان ولايزال الفنان الذي أكن له كامل الإحترام والتقدير. آسف أن أخيب ظنك لست ذاك الهرم الشامخ الفنان أحمد السنوسي بل أنا مجرد أحد المنفيين طوعا في بلاد المهجر, هو كما تعلم الإسم العائلي *السنوسي* منتشر في جهات عديدة بربوع بلدنا العزيز المغرب.

    3. يقول هيثم:

      يا أخي عبد الكريم البيضاوي: هل تقصد ثانوية عبد الكريم لحلو ؟ أنا درست في هذه الثانوية مدة ست سنوات إلى أن حصلت على الباكالوريا في مرحلة الستينيات من القرن الماضي. جيد أنك وجهت الخطاب للأخ أحمد السنوسي الذي حدد لنا صورة واضحة عن نفسه. تحياتي إليكما.

  10. يقول المغربي-المغرب.:

    تقييم عمل المسؤول والحاكم. .لايكون عن طريق قدرته الخطابية والارتجالية في المناسبات والندوات. .ولكنه يرتكز على إنجازاته السياسية والإقتصادية. ..والإجتماعية. ..؛ والمغرب في العشرين سنة الماضية استطاع تجاوز الآثار المدمرة لسنوات الرصاص …وأصبح المعتقلون السياسيون السابقون مسؤولين عن معالجة التجاوزات..والمشاركة في القرار السياسي. …واستطاع الخروج من السكتة القلبية اقتصاديا. …وتحول الى قطب صناعي …وجالب مهم للاستثمارات. …ونجح في خلق بنيات تحتية من طرق وموانى لاتجدها إلا في بعض الدول البترولية. …واستطاع تحقيق إنجازات وانتصارات في موضوع وحدته الترابية. ..أخرجت الموضوع من نتائج العبث البصروي. .نسبة إلى البصري. ..الذي كان مسؤولا عن كل شيء…وهو مايعكس بوضوح الفعل والنتائج وجود شخصية متميزة وقوية. ..تتميز بالقدرة على التخطيط والتنفيذ للمسؤول عن المرحلة. ..وليس القدرة على ربط الحروف والجمل. ..وإطلاق العنان للمزاج. .وشكرا.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية