جاء الرد الفلسطيني الرسمي على الإعلان عن التوصل إلى ما يسمّى «اتفاق سلام» بين إسرائيل ودولة الإمارات، غاضبًا وشديد اللهجة واستعملت فيه كلمة من النادر أن ترد في بيانات فلسطينية رسمية، وهي كلمة خيانة. صحيح أن سياقها كان «خيانة القدس والأقصى»، لكن هذا وحده من الكبائر. إنّ تسطير هذه الكلمة في بيان رسمي هو بحد ذاته دليل على شعور بصدمة وذهول وعلى إحساس بفداحة الضربة التي وجهتها قيادة الإمارات للشعب الفلسطيني ولقضيته. إنّ ما قامت به الإمارات هو طعنة من الخلف لشعب فلسطين، وحتى لو قيل عنها انّها كانت متوقّعة فإنّ ذلك لا يلغي أنّها طعنة موجعة.
يعود الغضب الفلسطيني، والعربي الشعبي أيضًا، إلى حقيقة أساسية بقيت قائمة وفاعلة ومؤثّرة منذ بداية الصراع على عروبة واستقلال فلسطين في مواجهة المستعمر والمستوطن، وهي أن قضية فلسطين مرتبطة بعمقها وبمصيرها وبمآلاتها بالعالم العربي وبما يجري في العالم العربي، سلبًا وإيجابًا. هناك التزام عربي علني ورسمي وشعبي من المحيط إلى الخليج بقضية فلسطين وبدعم شعب فلسطين في مسعاه لنيل حقوقه المشروعة، التي جرت ترجمتها في العقود الأخيرة إلى التزام بقرارات وقوانين الشرعية الدولية. واتفق العرب في القمم وفي المواقف الرسمية على التمسّك بمبادرة السلام العربية، التي وصفت بأنّها خط التنازل العربي الأخير، وجرى التعويل عليها لمنع إفلات دولة أو دول عربية نحو «سلام» منفرد مع إسرائيل.
في لحظة انكشف عمق التدهور العربي والتراجع المريب في التضامن العربي مع شعب فلسطين وقضيته العادلة
ما فعلته الإمارات هو أنها فتحت بوابة العالم العربي على مصراعيها نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل مع بقاء الاحتلال واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني. الإمارات اولًا تلحقها البحرين وعمان ودول عربية أخرى. الأدهى من كل هذا أنّ جميع الدول العربية لم تعارض الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي. هناك دول أعلنت دعمها للاتفاق، والبقية لم تعلن موقفًا. للمقارنة، عندما عقد السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل أعلنت كل الدول العربية معارضتها للاتفاق وقامت بمقاطعة مصر. لقد انكشف في لحظة عمق التدهور العربي والتراجع المريب في التضامن العربي مع شعب فلسطين وقضيته العادلة. في مقابل الخنوع العربي، جاء موقف كل من إيران وتركيا واضحًا وحادًّا في معارضة الصفقة الإماراتية الإسرائيلية، وهذا مؤشّر على أن هبوط النظام العربي وارتفاع أسهم الدول غير العربية في المنطقة، وهذا لا يخص قضية فلسطين فحسب.
في مقابل السخط الفلسطيني جاء الترحيب الإسرائيلي بالاتفاق مع الإمارات معبّرًا عن شعور بالانتصار في تهميش قضية فلسطين. لقد كان نتنياهو مزهوًّا بنفسه متبجّحًا أنه حقّق اختراقًا تاريخيًا بالتوصل إلى اتفاق على معاهدة سلام مع دولة عربية وصفها بالمهمة، وذلك وفق مبدأ «سلام مقابل سلام»، مشدّدًا على أن الفلسطينيين لم يعودوا يقررون «العلاقة مع الدول العربية». وبعد أن هاجم الكثيرون في المؤسسات الأمنية والسياسية والإعلامية والاقتصادية نتنياهو واتهموه بأنه «يتخبّط» سياسيًا بلا اتجاه واضح، بدأ الحديث عن نجاح «عقيدة نتنياهو»، المتمثلة بسلام وتطبيع مع العالم العربي وعزل الفلسطينيين وإجبارهم على القبول بشروط اليمين الإسرائيلي، الذي يقوده ويمثّله. لقد اعتبر نتنياهو ومن حوله الاتفاق مع الإمارات أهم انجاز له في حياته السياسية، خاصة وأن دولا عربية أخرى ستعلن تطبيعها الكامل مع إسرائيل، ما سيزيد من وزن وأهمية إنجاز نتنياهو.
كان للاتفاق الجديد مع قبله، فقد بدأت العلاقة بين إسرائيل والإمارات قبل 26 عامًا. ووصف شمعون شيبيس، مدير عام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين، اللقاء الأوّل بمحمد بن زايد، عام 1994، قائلًا: «حين وصلت فندق انتركونتيننتال (في جنيف) شعرت بالأسف لأنّي لا أحمل كاميرا لتوثيق ما يحدث. كان في انتظاري في المدخل عشرون من الوجهاء يرتدون كوفيات وسراويل بيضاء وعليها السيوف. وبعد أن صافحوني الواحد تلو الآخر اقتادوني إلى المصعد. لقد أحرجني الأمر لأني أعمل في الكواليس، وما بالك بأن اللقاء كان سريًّا». بالدرجة نفسها من السرية المكشوفة تطورت العلاقات بين الطرفين، فبعد هذا اللقاء جرى ترتيب لقاءات بين رئيس الموساد تلك الأيّام، شبتاي شابيط، ورؤساء الأجهزة الاستخباراتية الإماراتية، وتوالت اللقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وإماراتيين على كل المستويات وتوسّعت عامًا بعد عام إلى أن وصلت إلى تبادل تجاري بمئات الملايين من الدولارات سنويًا.
في القراءة التاريخية للعلاقات الإماراتية الإسرائيلية من المهم الانتباه إلى نقطة البداية، التي جاءت تحديدًا بعد اتفاق أوسلو، الذي من ضمن مصائبه أنّه فتح الباب أمام التطبيع العربي. لم تكن الإمارات وحدها، التي أجرت اللقاءات وطوّرت العلاقات مع إسرائيل بعد أوسلو، فقد كان معها المغرب وقطر وتونس والبحرين وموريتانيا وربما غيرها. تراجعت هذه العلاقات كثيرًا بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، وجرى إغلاق الممثليات الدبلوماسية والاقتصادية في إسرائيل وفي هذه الدول. الدولة الوحيدة التي استمرت، بلا توقّف، في توسيع العلاقات ورفع مستواها هي دولة الإمارات، التي حوّلتها من مجرد علاقات إلى تعاون استراتيجي وحتى إلى نوع من التحالف. ليست الإمارات وحدها في العلاقات «المتميّزة» مع إسرائيل، فمعها دول عربية أخرى أقامت علاقات «استراتيجية» وأمنية واقتصادية مهمّة مع إسرائيل، لكن بسريّة أكثر وبحجم اقل بكثير. لقد أصبحت العلاقة مع ما يسمى بمعسكر الاعتدال العربي حجر الزاوية في السياسة الإسرائيلية في المنطقة. وقد فاخر نتنياهو، في أكثر من مناسبة، أمام النوّاب العرب في الكنيست الإسرائيلي، بأنّ علاقته بالدول العربية أفضل من علاقتهم بها، وحتى أفضل من علاقة كلّ الفلسطينيين بها!
لسنا بحاجة إلى طول سيرة لاكتشاف خلفيات توقيت الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، فسبب الإعلان، وبهذا التوقيت هو بكلمة واحدة: ترامب. لقد أراد الرئيس الأمريكي أن يقدّم هدية متواضعة لنفسه عشيّة الانتخابات، وهدية مهمّة لصديقه بنيامين نتنياهو، الذي يصارع على حياته السياسية. لم تكن العلاقات المتشعّبة والمصالح المشتركة لنتنياهو وبن زايد كافية للبوح بالعلاقة في العلن ومنحها طابعًا رسميًا، وكان الوزن الأكبر هو «طلب الرئيس»، الذي جرى قبوله بسلاسة وسهولة وكانت الإمارات جاهزة لتلبيته، وكأنّها انتظرت «دفشة» صغيرة أخيرة لنقل العلاقة من السر إلى العلن.
وبالرغم من الأسباب الانتخابية المباشرة لقيام إدارة ترامب بتعجيل هذا الإعلان، إلّا أنه، كخطوة سياسية، ينسجم تمامًا مع استراتيجية طاقم ترامب الصهيوني، كوشنير وفرديمان وبركوفيتش، ومع «صفقة القرن» ودوافعها وأهدافها، ومع تطبيقها وفق المصالح الاسرائيلية. فبعد قيام الولايات المتحدة بالاعتراف بالقدس الموحّدة عاصمة لإسرائيل، وبمنح الشرعية للمستوطنات، وبالعمل على إغلاق ملف اللاجئين ومحاربة وكالة غوث اللاجئين، وبالاعتراف بضم الجولان، جاء دور ما نصت عليه صفقة القرن من أن «تتعاون الدول العربية بشكل كامل مع دولة إسرائيل لفائدة جميع الدول في المنطقة. وعلى سبيل المثال رحلات طيران بين الدول العربية وإسرائيل لدعم السياحة المتبادلة، ولتمكين العرب والمسلمين والمسيحيين من زيارة الأماكن المقدسة في إسرائيل. الولايات المتحدة ستشجّع بقوّة الدول العربية (التي لا علاقات رسمية لها مع إسرائيل) على أن تباشر تطبيع علاقاتها مع دولة إسرائيل والتفاوض على وثيقة السلام الدائم».
يخطئ من يظن أن «صفقة القرن» قد ماتت، أو أنّها فشلت، وحتّى الحديث عن مشروع الضم بين التطبيق والتأجيل والإلغاء، يدور كلّه في إطارها وفي فلكها ومنها وإليها. وإذا أردنا أن نستشرف «الخطوات المقبلة»، سنجد في نص صفقة القرن الكثير مما يمكن أن يخرج إلى حيّز التنفيذ، أو على الأقل سيكون هناك مسعى لإخراجه إلى حيّز التنفيذ. من ذلك مثلًا إعلان نتنياهو أنّه يسعى إلى أن يكون هناك خط طيران مباشر بين تل أبيب وأبو ظبي يمر فوق الأراضي السعودية. وتشمل صفقة ترامب منطلقات واضحة للمرحلة المقبلة، وإلى جانب تطبيع المزيد من الدول العربية للتطبيع العلني مع إسرائيل نجد فيها دعوة إلى «توثيق العلاقات بين إسرائيل ومجلس التعاون الخليجي» وهذا يعني المجلس كمنظمة وليس الدول الأعضاء فحسب، وتأكيدًا بأنّ «دمج إسرائيل في المنطقة سيتيح لها المساعدة في مجموعة واسعة من التحديات الاقتصادية وفي مواجهة تهديدات إيران في المنطقة»، ودعوة إلى قيام إسرائيل والدول العربية بالعمل على إقامة «منظمة أمن وتعاون في الشرق الأوسط» وبالتعاون مع الولايات المتحدة من أجل «ضمان حماية حرية الملاحة عبر المضائق الدولية» وغير ذلك من المخططات والمشاريع.
المهم في صفقة القرن أنها تلخص مبادئ سياسة الإدارة الأمريكية الحالية في الشرق الأوسط، وهي قابلة للتغيير تبعًا لنتائج الانتخابات في الولايات المتحدة. لكنّ العلاقة الإسرائيلية الإماراتية ليست محكومة فقط بالرغبات وبالمخططات الأمريكية، فلها وقودها الداخلي، الذي جعلها تستمر نحو أكثر من ربع قرن. ولعلّ من أهم الدوافع الإسرائيلية للضغط باتجاه تطوير العلاقة مع الإمارات هي الدافع الاقتصادي. وكما أن حلم روسيا القديم هو الوصول إلى المياه الدافئة، فإنّ حلم إسرائيل هو الحصول على استثمار خليجي ضخم، ومزاوجة الرأس اليهودي الإسرائيلي بالمال العربي الخليجي وصولًا إلى رأسمال ضخم ينقل الاقتصاد الإسرائيلي إلى أعلى المستويات في العالم. وتتوقّع مؤسسات البحث الاقتصادي في إسرائيل أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي مليار دولار، في المرحلة الأولى ومليارات إضافية لاحقًا.
من خلال الاتفاق المعلن تسعى إسرائيل إلى إحداث نقلة نوعية في التعاون الاستراتيجي والأمني مع الإمارات، خاصة في مواجهة ما يسمّى بالخطر الإيراني. والأمر الأهم بالنسبة لها هو أن يكون لها موطئ قدم ثابت في المنطقة القريبة من إيران، سواء أكان ذلك بالتواجد الأمني الإسرائيلي المباشر أو من خلال بيع أجهزة تجسس للإمارات، وإسرائيل تعرف كيف تتجسس على أجهزة التجسس التي تصنعها، سواء بإذن أو بلا إذن.
لقد كان الإعلان الإسرائيلي الأمريكي الإماراتي عن الاتفاق مفاجأة بقدر معيّن. لم يكن مفاجأة كبيرة لأنّ العلاقات المزدهرة بين إسرائيل ودولة الإمارات لم تكن سرًّا، والخروج من الخفاء إلى العلن هو تغيير في المظهر وليس في الجوهر، وفي عالم اليوم لا يقل المظهر أهمية عن الجوهر، وكثيرًا ما تكون أبعاد وتداعيات مهمة وحاسمة. لقد كشفت الصفقة الإماراتية الإسرائيلية، أنّ القوى المؤثّرة في العالم العربي جاهزة لتمرير صفقات عربية – إسرائيلية على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، بالدعم العلني أو بالسكوت المتواطئ. هذا هو الواقع بعد انقشاع غمام الكلام، وهذا يستوجب مراجعة وفعل فلسطيني مختلف عمّا كان حتّى اليوم، فلن تتغير الأحوال في الوطن العربي ما لم يكن هناك تحوّل جذري وسعي جدّي نحو عودة الروح لقضية فلسطين، التي كادت تموت في ردهات الدبلوماسية العقيمة.
رئيس حزب التجمع في الداخل الفلسطيني
تبا لكل صديق غادر ولكل عدو جبان .عاشت فلسطين حرة عربية وعاصمتها القدس الشريف