صعدت على سطح منزلي الرّيفي أشرب قهوة المساء وأرقب أن يطلع الهلال. لست فلكيّا حتى أعرف من أين يمكن أن يطلع هلال غرّة الشهر، ولست بسيطا إلى درجة الاعتقاد في أنّ الهلال هو كتلة متشردة من النجوم ذابت في بوابة القمر المظلم.
عبقريّ من يرى هلال الشهر فهو يعرف من أين يأتي ويظل ينتظره حتى يراه ويجري ليخبر به الناس فيصوموا؛ فإن لم يره مشى خجلا مترددا فيخبرهم أنّ رؤيته تعذرت فيقررون تأخير الصيام يوما؛ وفي الغد لا يصعد أحد ليرى الهلال فالناس متيقنون بأنّه هناك في مكان ما. مسكين ذلك الهلال المتأخر عن أمسه سيظهر في يومه، ويظل ينادي على العيون التي كانت بالأمس تشتاقه، لكنّها اليوم عنه غافلة. فقد تقرّر في الأذهان وبالحساب الافتراضي أنّه سيظهر لا محالة. إن تعذّرت الرؤية، يا هلالا غاب يوم الرؤية، فالحساب والافتراض يقــــرران وجودك. طبعا ليست الأهـــلّة، في تصــــوّر الباحثـــين عنها والمقدّرين أنّها إن لم تظهر اليوم فستظهر غدا، بذلك القدر من سوء النية حتى لا تظهر من الغـــدِ: هي لا تظــهر تلك اللـــيلة وهي» ليلة الشــــك» هكذا يســــمونها لكنها ســتظهر في ليلة مقبلة لو سماها الناس لتسمّت بـ«ليلة اليقين» لكــنّ الناس في ليلة اليقين غافلون عن السماء ونجومها مستعدّون لبداية صوم يدوم شهرا قمريا كاملا.. سيعودون بعد شهر إلى البحث عن القمر وسيصعدون كلّ سطح وسيبحثون وسيرونه في ليلة الشكّ، أو سوف لن يروه في ليلة اليقين.. أنا لا أدري أيّ هلال يبهج أكثر: هلال يعلن شهر الصيام؟ أم هلال يعلن انتهاءه؟ لا يوجد هلال يعلن العيد إلاّ هلالٌ يعقب الصيام أو يبشّر بأن الحجّ سيكون بعد ظهوره بأيّام معدودات.
ما لي أنا وهذه الحكايات وأنا رجل لم يرَ الشّهر ولكنّه يصومه لرؤية غيره، أنا أصدّق غيري وأصدّق ذلك الشّيخ الذي يأتي من نصف قرن تزيد ويقرأ من ورقة كلاما يعلن الصيام، ويتمنى لأولي الأمر منّا كلّ السعادة والهناء بهذه المناسبة، ثمّ يأتي بعده شهر قمري ويقرأ من ورقة أيضا أنّ العيد غدا أو بعد غد ويتمنّى لأولي الأمر منّا عيدا سعيدا ويطلب من الله أن يطيل في أعمارهم فتطول الأعمارُ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
يجلس لِسَانيّ مثلي على سطح بيته في مساء ريفيّ ويرقب إطلالة الهلال وينسى كلّ شيء إلا كونه لسانيّا، فهو على سبيل المثال ينسى أنّ ذلك الشيخ الذي يدعو لمن يطول عمره لا يعنيه عمر لسانيّ إن طال أو قصر؛ وينسى في ما ينسى أنّ القصّابين وأهل الفاكهة وباعة السَّمك لن ينتظروا درهمًا منه شحيحا، ولا ديناره الذّاوي، كي يكدسوه في صندوق ربحهم؛ سيتدافع العامّة عليهم فهذا شهر يطلّق فيه الجوع بالثلاثة.. يجلس اللسانيّ على سطح بيته وينسى مثلا أنّه يشتغل بشيء لا ينفع في رمضان، ولا حتى في العيد: فماذا يفيد كلام اللسانيّ في أيام الأفراح وفي الليالي الملاح، حين تنبعث في ليالي الصيف أغاني الأعراس التي تهتز لها الأجسام الممتلئة لهبا.. بيد أنّ أهمّ ما ينساه اللساني مثلي وهو يمارس طقس انتظار الهلال، أنّه جُرم من الأجرام التي تبدو بلا جَاذبيّة .. أقول: تبدو وأستغفر الله لي ولكم.
. من يرى الهلال وكأنّه شكل مستقلّ يَظلم القمرَ باعتباره الأساس. هو يظلم القمر لكنّه لا يظلم حقّ نفسه فلا أحد بقادر على أن يتحكم في إدراكنا لما ندرك ونحن نعتقد أنّ هويّة الأشياء هي ما ندركه.
هلالُ اللسانيّ لا يعلن عن شيء في البداية إلاّ إذا انتسب إلى مملكة لسانيّة معروفة في مملكة العرفانيّين التي تسطع نجومها، هذه السنوات سأتطلع إلى هلالي في هذه المملكة. هو عندهم كَيانٌ مُدرك ولا يعنيهم كيْف أدركته: أَعِيانا أم خَيالا؟ أرأتـــــه في ســـماء الله الحيّة أم في صورة متحركة أو ثابتة؟ لكنّ إدراك الهلال بما هو كيان يكون في محيط ضيّق ومباشر يحـــدّده إدراكيّا ويسمّى الأساس. أساس الهلال هو القمر وهـــو دائرة (غير صادقة الاستدارة: يحب العلماء هذا التدقيق غير المفيد هنا) فتنكشف ملامحها الدائرية أو تظل تظلم فتختفي لكنّها تظلّ موجودة؛ والهلال هو هيئة أولى من ضياء الدائري واستقراره على شكل لا تظهر فيه إلاّ أطراف الدائرة. من يرى الهلال وكأنّه شكل مستقلّ يَظلم القمرَ باعتباره الأساس. هو يظلم القمر لكنّه لا يظلم حقّ نفسه فلا أحد بقادر على أن يتحكم في إدراكنا لما ندرك ونحن نعتقد أنّ هويّة الأشياء هي ما ندركه.
الهلال إذن يُسمّي بداية حركة من ظهور الضّياء على الدائرة. في توظيفنا للهلال على أنّه بداية للشهر لا نركز إدراكيا إلاّ على بداية الأهلة أي على الأهلة المعلنة على بداية انتشار ضياء الدائرة، رغم أنّ هناك شكلا مماثلا لها يمكن أن يعلن عن انحسار ذلك الضياء والقمر يذوبُ. الهلال هو قمر جديد والبدر هو اكتمال القمر لكنّ القمر له محيط مباشر أو أساس مختلف عن أساس الهلال. أساس القمر هو السماء المضيئة ليلا هذا هو محيطها الذي ندركه فيه ومن أدرك الهلال على أنّ أساسه السماء جعل الهلال كيانا مستقلا بذاته عن القمر. هناك شيء مهم في جعلنا نحتفي إدراكيا وبالتالي لغويا بالهلال هو البروز الإدراكي لجانب من الأساس: فالهلال هو المحيط القليل المنير من محيط الدائرة القمرية وتجربتنا تجعلنا ندرك الأبرز ونعيّنه فنحن في الليل ننتبه إلى نور منبعث من بعيد لأنّ كلّ المحيط مظلم إلا هو المنير؛ ولكننا لا ننتبه إليه في النهار لأنّ المحيط كله منير وفي حقل من الزيتون ننتبه إلى نخلة أو إلى تفاحة والعكس بالعكس.
يحتفي العرفانيون من دارسي اللّغة وهم يدرسون المعاني بالإدراك لأنّهم يعتقدون مثلما يقول رونالد لنغاكر أحد أبرز شيوخهم إنّ «البنية الدلاليّة هي الإدراك وقد صُمّم خصّيصا لميزات المواضعة اللّغويّة». وبناء على ذلك يصل إلى استنتاج مهمّ وهو أنّ التّحليل الدلالي مثل الذي نحن فيه (تحليل دلاله هلال إدراكيا) «يتطلّب توصيفا واضحا للبنية الإدراكيّة». هذا يعني أشياء كثيرة مهمة من بينها أنّ البنية الدلالية للهلال عند المسلمين لا تقصي كثيرا من العناصر التي ترتبط بهذه التسمية المتواضع عليها في تجاربهم، ومن بينها أنّه يعلن بداية التوقيت الشّهريّ، ولاسيما في المناسبات الدينية؛ وأنّه لا بدّ من أن يُرى أو لا يرى في فترة معلومة، وأنّ الحساب الفلكيّ وحده لا يكفي، على الرغم من أنّ هذا الحساب وحده يكفي ليخبرنا بمواعيد دقيقة للكسوف والخسوف. لكنّ الهلال ضروري من جهة زمانية معلومة وغير مهم من جهات زمنية أخرى، إذ يُحتفل برمضان شهرا وبذي الحجة ولا يحتفى إذ يقول بعض الناس رمضان 2018 فيمزجون بين شهر قمري وسنة شمسية.
ما زلت هائما على السطوح أنتظر أن يهلّ الهلال مفكّرا في الكيفية التي يمزج بها مزج لسانيّو بني عرفان بين التمثيلات الذهنية والوحدات الرمزية اللغوية حتى ناداني قمري وشمس حياتي وقالت: تعال ها هم يعلنون أنّهم رأوا الهلال.. نزلتُ فسألتني: هل رأيت الهلال؟ أجبت: من يغنيه البدر فما يعنيه الهلال؟
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
ستظل كتاباتك الشيقة مرتقبة مراقبة كما الاهلة دمت مبدعا متجددا
–
تحياتي