رؤية نبوية لعصرنا الراهن: الإسلام

«يَا أَيها الناس إنا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُم شُعُوبًا وقَبَائِل لتعارفُوا أن أكْرَمَكُم عنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم أن اللهَ عليمٌ خَبِير» (الحجرات: 13). هذه الآية الكريمة لم تفصح عن مدلولها البين إلا في العصر الراهن، وفي هذا الزمن الفائق، زمن الاتصال المباشر والتواصل البشري الحي. أبرز ما يتجلى في المدن الكبرى لهذا العالم هو التنوع البشري، وتباين الناس من حيث العرق والجنس والدين واللغة، فضلا عن الاختلاف الفكري والأيديولوجي والسياسي.
الحراك البشري والديموغرافي على صعيد العالم بأسره، منح الإنسان القدرة على تَمَثل العالم ككيان واحد لمصير كل الإنسانية، أي الوعي بعالمية كوكب الأرض، وأن الإنسان كائن عالمي في هذا الأرض أيضا. فقد آل الوضع إلى ضرورة التشريع إلى الناس كافة، وحمايتهم في أوضاعهم المختلفة، كقبائل وشعوب ودول وأمم وحضارات، على ما تضطلع به المؤسسات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي شارفت على تدمير وخراب العالم كله، واليوم ينظر إلى سنوات الحرب على أنها أشبه بيوم القيامة، ولعل يوم 11/09/2001، أقرب إلى ذلك المشهد، ومع ذلك، فإن الحزب الجمهوري الأمريكي لم يتعظ، ولا يزال يتمادى في غيه، على غرار ما يفعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
كل شعوب العالم صارت لديها سلطة، وإن اختلفت قوتها التدميرية بين دولة وأخرى، كما لديها القوة الناعمة من أجل أن تستثمرها في حل الأزمات والمعضلات، وكذا التحديات التي تواجه العالم. فقد أدى ترابط أطراف العالم ومركزه، إلى أن كل العالم صار من واجبه أن يساهم في حل أي مشكلة تقع في العالم، حتى إن كانت لا تعنيه من قريب، لأن السياق الجديد للعالم قرّب البعيد وكل الدول الكبرى، أضحت تدرك ذلك، وتعمل على التعاطي مع كل ما يجري في العالم. كل شعوب العالم قررت مصيرها، أي رؤيتها إلى المستقبل، على ما فعلت شعوب العالم الثالث طوال حقبة الاستعمار الأوروبي، وشعوب أوروبا الشرقية زمن النظام الشيوعي السوفييتي، شعوب أمريكا اللاتينية (لاهوت التحرير) واليوم على ما يجري في العالم العربي، وسعي الشعوب العربية إلى تخطي النظام السلطوي العربي البغيض. هذا الوضع الجديد، وما يرافقه من وعي بالعالم ككيان واحد، يتطلب رؤية نبوية توجه مصير العالم نحو الخير والفضيلة والسعادة. فقد عاش هذا العالم حينا من الدهر، أدار ظهره للقيم الأخلاقية الكبرى وللدين في مُثُلِه ومفاهيمه السامية، والإصغاء إلى صوت السماء والوحي الإلهي في خطابه الموجه إلى الناس كافة وكل العالمين. فالخطر الداهم الذي تسبب فيه الإنسان، من خلال الحروب والكوارث الاجتماعية، صار يستحث العقول الأخلاقية والدينية إلى السعي إلى صياغة البيان الأخلاقي العالمي، كوثيقة مرجعية تحدد الرؤية النبوية أو المنهج الرسالي، الذي تستند إليه الإنسانية جمعاء كأفضل سبيل إلى الاعتصام جميعا بحبل الله، وصيانة لها من مدلهمات الدمار الكبير .

الحراك البشري والديموغرافي على صعيد العالم بأسره، منح الإنسان القدرة على تَمَثل العالم ككيان واحد لمصير كل الإنسانية

إن الوعي بالإنسانية هو وعي الإنسان بأنه عضو في المجموعة الإنسانية، على المجتمع الدولي أن يحميه، كما عليه أن يحمي المجموعة أيضا. الكل مرشح لكي يصل إلى الحكم، وإلى تداول وتسيير الشأن العام بسبب الديمقراطية التداولية والمباشرة والحرة، تترتب عنه مسؤولية أمام الإنسان وأمام الإنسانية، أي بالمعنى الذي صار متداولا اليوم: المواطن في العالمcitoyen-monde . اجترح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، منهاجا إنسانيا بناءً، على تجربة تاريخية تحددت ملامحها ومعالمها في المدينة المنورة، يثرب سابقا. وتحول المكان، وصارت له دلالته الكبرى في المنهاج النبوي، الذي أسس للسنة النبوية، أي التجربة كما هي في البداية والسياق والنهاية، فقد تحدد مضمون السنة في نموذج ما جاء به الرسول الكريم، أثناء حياته كنبي أمي، أي متعال عن ما هو دنيوي فقط، ومستقل بملامحه وقسماته، التي تميز سنته، وتسعى الإنسانية بعد ذلك إلى إرساء سنن نوعية تليق بالزمان والمكان التي توجد فيه. ونحن اليوم في سياق عولمة فائقة زادت من وتيرة التاريخ، وقلصت من الجغرافيا، آن لنا أن ننتبه إلى أهمية رسالة القرآن إلى العالمين، حيث صارت لحظة العالمين ممكنة تتلقى الخطاب في لحظة فورية.
في التحليل التاريخي، كما في الفهم العلمي أيضا، أن حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام هي حياة مع الوحي الإلهي، طوال البعثة النبوية في مرحلتيها المكية والمدنية، وقد اتسمت هذه المرحلة بخصوصية غير قابلة إطلاقا للتكرار والإعادة، وهي وجود المشرع هو الله والمشَرع له هو النبي محمد، المبعوث رحمة إلى العالمين وليس إلى أهله فقط. وهذه الخاصية لها دلالتها القوية في فهم وإعادة التفكير في رسالة الإسلام، في صلتها بماضي الأنبياء والرسل، وبالتاريخ اللاحق للبشر. ولعل أول ما يجب إعادة فهمه أن المجتمع العربي المؤمن برسالة الإسلام في عهد الرسول، يكون قد انتقل من التعامل مع رسالة الإسلام إلى الناس كافة وإلى العالمين، إلى المجتمع المسلم بعد عصر النبي والصحابة، أي الانتقال إلى الكائن، سواء أكان فردا أو جماعةً، من كونه مؤمنا إلى كونه مسلما، تحددت ملامحه كمسلم بعد انقطاع الوحي. وعملية التحول هذه أو الانتقال حملت معها تحديدا قوميا لرسالة الإسلام، وأسست من ثم لمرجعية أولى لتاريخ الإسلام والمسلمين. إلا أن الوحي القرآني في ماهيته وغائيته، الرامي دائما إلى التجاوز والتخطي، لم يتوقف عن التشَكل مع خصائص وملامح المجتمعات، التي تبنته كدين لها، وبالتالي استبعاد العصر الأول للإسلام، كمرجعية حصرية وتمثيلية مستوعبة بشكل مطلق لكل تاريخ الإسلام السابق على رسالة الوحي القرآني واللاحق عليه أيضا. ومن هنا القول بأن السنة النبوية المحمدية هي سنة وسمت حياة صاحبها وصحابته، والعصر الذي صاحبوه، تجربة غير قابلة للتكرار والاجترار، على ما يحاول بعض السلفيين اليوم. ويبقى في نهاية المطاف أن العودة إلى عهد «السلف الصالح» هي دائما من باب الاستئناس العلمي والتاريخي لإدراك المعاني الأولى لمفردات وكلمات الخطاب القرآني.
الخلاصة، وليس نهاية التحليل، يمكن القول إن البيئة الأولى التي شهدت الدعوة الإسلامية، لا يمكنها أن تختزل كل الوحي القرآني، ولا تاريخ الإسلام برمته. المجتمع العربي الأول الذي تلقى الوحي القرآني كان قائما على نظام القبيلة والعشيرة، ولم يخرج عن هذا الطوق، إلا في أعقاب انتشاره في المجالات الجغرافية، التي كانت تحمل إرثا تاريخيا وحضاريا قديما مثل، الحضارات الفارسية، العراقية، الأندلسية، العثمانية، انتقل على أثر ذلك الإسلام ذاته من الطور البدوي إلى الطور الحضري، وأشرّ على بعده العالمي، أي البحث المتواصل عن فضاءات أخرى، التي تتناسب مع سمو الرسالة النبوية، وتعدد وتنوع الحقائق البشرية والمدنية، ولعل سياق العولمة أفضل مناسبة تساعد رسالة الإسلام على توجيه خطابه إلى الناس كافة، لأن لحظة العولمة تضع الجميع في وقت واحد مع الخطاب القرآني. الأمر الذي يجعل التجربة العربية مع الوحي القرآني تجربة من جملة تجارب أخرى تستوجب الفهم العربي مع مفاهيم أخرى.
كاتب وأكاديمي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    القرآن لكل زمان ومكان, ولكل قومية وطائفة! فهو يحتوي على علوم لم يكتشفها البشر لغاية اليوم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول شبايكي:

    كلام ينبع من عقلية حضارية واعية بالمحيط ومتصلة بالجذور التاريخية، وقد أحسن الأستاذ في الربط السيميولوجي والتحليل الابستيمولوجي

إشترك في قائمتنا البريدية