احتمالية الوصول إلى تدمير كامل لحماس لم تكن موجودة منذ اليوم الأول الذي أعلن عنه بنيامين نتنياهو كهدف رئيسي للحرب. منذ ذلك الحين، كان واضحاً لكل عاقل أن التدمير المطلق لهذه المنظمة الإرهابية ليس سوى أمنية لا فرصة عسكرية لتحقيقها، حتى في ظل معطيات مختلفة عن القائمة في قطاع غزة.
كانت تكفي معلومات محدودة جداً تلك التي كانت قبل 7 أكتوبر لنفهم بأن شبكة الأنفاق المتشعبة تمتد بكل أرجاء القطاع. كان يكفي ما عانيناه من الأنفاق الهجومية في عملية “الجرف الصامد” قبل تسع سنوات لنفهم أن شبكة الأنفاق الموجودة تحت المستشفيات وتحت مبان عامة كثيرة أخرى في هذه المنطقة الصغيرة نسبياً من القطاع والتي لا تسمح بعملية عسكرية قصيرة وسريعة وحاسمة، لن تسمح لنا بنصفية هذه المنظمة الإرهابية حتى في ظروف مريحة أكثر، بل هي عدو غير سهل.
يعرف نتنياهو أن خطابه عار من الصحة وأن الأمر سينتهي به إلى الانفجار أمام الواقع العسكري والإنساني الذي سيجبر إسرائيل على الوصول إلى نقطة النهاية لما يسمى في هذه الأثناء بـ “حرب السيوف الحديدية”. ها قد حان الوقت، فهزيمة حماس بعيدة، أما نحن فلا نقترب حتى من المرحلة التي تهتز فيها سيطرته على الجدول الزمني للأحداث التي بدأتها في 7 أكتوبر.
أفضل الجنود في الجيش النظامي وفي الاحتياط يحاربون بتصميم وشجاعة ومهنية مؤثرة. التعاون بين أذرع الجيش والتنسيق والتزامن بين سلاح البحرية وسلاح الجو وسلاح البر والاستخبارات فعال أكثر مما كان في أي مواجهة عسكرية منذ حرب يوم الغفران. لم تعمل كل الأذرع القتالية في إسرائيل يوماً ما بتنسيق مثير للانطباع كهذا، سواء في حربي لبنان الأولى والثانية أو في كل العمليات العسكرية في “يهودا والسامرة”. هذا يشمل عملية “السور الواقي” التي كانت مواجهة عنيفة مع عدد من مخيمات اللاجئين التي تخلو من بنى تحت الأرض تهدد قواتنا. أيضاً عملية “السور الواقي” لم تؤد إلى تصفية التنظيمات الإرهابية في “يهودا والسامرة”، رغم أنها قللت أبعاد الإرهاب بصورة دراماتيكية. مرت عدة سنوات إلى قلنا إن العملية انتهت.
وكذا العمليات في القطاع: “الرصاص المصبوب” و”الجرف الصامد” و”حارس الأسوار”، وكل العمليات العسكرية، لم تكن لتثير انطباعاً كالقتال الجاري الآن. ولكن التوهم وكأننا بعملية كهذه سندمر هذه المنظمة الإرهابية ليس سوى تضليل للنفس، إلا إذا تعلق الأمر بعملية خداع تم التخطيط لها مسبقاً تستهدف إبعاد إنهاء الحرب بقدر الإمكان عن أحداث 7 أكتوبر، لخلق فترة للراحة، التي ربما ستمنع غرق نتنياهو السريع في الهاوية التي يستحق أن يتم رميه فيها.
نتوقع أياماً صعبة، وعدد قتلى أصبح متفاقماً ومزعجاً، ومشاهد قاسية من الدمار والخراب في قطاع غزة، التي تلقي بظل ثقيل على دولة إسرائيل وتقوض الدعم والتسامح الذي تظهره لنا الدول الصديقة.
ما الذي يجب فعله؟ أعتقد أن الوقت قد حان للإعلان عن استعداد إسرائيل لوقف القتال. نعم، وقف القتال. ليس هدنة أو وقف مؤقت لبضعة أيام، 3 – 4 أيام، بل وقف القتال. نقطة. في هذه الأثناء، على إسرائيل إعادة المخطوفين، الأحياء والأموات. إذا انتظرنا، فبعد فترة قصيرة لن نعيد إلا الأموات. وقف القتال يجب أن يكون متفقاً عليه على أساس إطلاق سراح جميع المخطوفين عن آخرهم، سواء الجنود أو جثث المخطوفين المحتجزة لدى حماس منذ سنوات.
في الوقت نفسه، ربما تضطر إسرائيل إلى إطلاق سراح سجناء حماس الموجودين لديها. رفضتُ عقد الصفقة التي عرضت علي في حينه من أجل إطلاق سراح جلعاد شاليط. الصفقة التي تم عرضها عليّ كانت أفضل بكثير، ومعقولة أكثر من التي نفذها نتنياهو في النهاية، التي أطلق فيها سراح 1027 من القتلة، وعلى رأسهم من يسميه الآن رئيس الحكومة، يحيى السنوار. لقد أطلق سراح كل هؤلاء القتلة، من بينهم سكان من شرقي القدس ومواطنون عرب من إسرائيل مقابل جندي واحد.
أنا، الذي تنازلت عن الكرامة المشكوك فيها في الاحتفال المتوقع لإطلاق سراح شاليط لأنني خشيت من أن يتسبب إطلاق سراح عدد أقل بكثير من السجناء حتى بدون أن تكون أيديهم ملطخة بالدماء، بخطوة غير مقبولة تماماً، أقول الآن: أطلقوا سراحهم.
إذا لم تكن هناك طريقة أخرى لإعادة المخطوفين، فلا مناص من التنازل في هذه القضية. وواجب الدولة تجاه مواطنيها الذين تم اختطافهم من بيوتهم، أكبر من الخجل الذي ينطوي عليه هذا التنازل المطلوب.
يجب أن تعلن إسرائيل بأن وقف القتال سيكون مقروناً بتجميد انتشار القوات العسكرية في المكان الذي سيكونون فيه في اليوم الذي سيعلن فيه وقف القتال. في المقابل، ستعلن إسرائيل بأنها ستبدأ التفاوض مع الفلسطينيين على مستقبل قطاع غزة بوساطة مصرية.
هذه هي صورة الوضع الحالية: من جانب إنجازات إسرائيلية مثيرة للانطباع على الصعيد العسكري، ودمار يهدد وجود غزة جراء العملية العسكرية المبررة والتي لم يكن بالإمكان تجنبها لإسرائيل. ومن الجانب الآخر الغيمة السوداء التي تلف دولة إسرائيل جراء مشاهد قاسية للدمار في غزة. يمكننا وبحق أن نغضب من توارع ونفاق مجتمعات مختلفة في العالم، ومن حكومات وزعماء يقدمون لنا المواعظ الأخلاقية كل يوم حول واقع لو جربوه لما كانوا سيردون عليه بشدة أقل من ردنا. جزء من الذين يوجهون إلينا الانتقاد تصرفوا بوحشية بدون تردد، بما في ذلك عمليات قصف دون تمييز، وتدمير دول ومناطق مأهولة بالسكان تقع على بعد آلاف الكيلومترات عنهم عندما تمت مهاجمة مواطنيهم، وفي بعض الحالات أيضاً تمت مهاجمتهم وقتلهم على يد التنظيمات الإرهابية.
ولكن الأغبياء مثل الجاهلين في القناة 14 ومشاهديهم الذين يتفقون مع أقوال الهراء، لا يفهمون إلى أي درجة تعتمد إسرائيل على النية الحسنة لزعماء هذه الدول، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ وإلى أي درجة حوّل مسيحهم الملعون نتنياهو الاعتماد على دعم الولايات المتحدة ودول أخرى إلى أمر حاسم لاستقرار إسرائيل وقدرتها على الصمود.
لقد حان الوقت، علينا الوقوف بحزم وبدون تردد، وبدون حسابات سياسية لاستطلاعات ومقاعد في الكنيست والتوصل إلى المرحلة القادمة في المواجهة الحالية، وهي وقف القتال وإعادة المخطوفين (الأحياء والأموات) وإجراء مفاوضات بوساطة مصر حول مستقبل القطاع، الآن.
ليست هناك أي احتمالية لموافقة نتنياهو على ذلك، لأنه يؤمن بأن مستقبله ووجوده وحياته السياسية وإرثه وعائلته وأولاده، كل ذلك مرتبط باستمرار القتال، “ولتحترق الدولة”. هل هناك أحد من شركائه في “كاببنت الحرب” لديه الشجاعة والحزم للقيام بالخطوة التي يجب القيام بها اليوم والآن؟
هآرتس 29/12/2023