تونس ـ «القدس العربي»: القادم من جهة البحر الأزرق المترامي إلى منطقة الساحل التونسي، أي ولايات سوسة والمنستير والمهدية، يطالعه من بعيد رباط المنستير شامخا كالأسد المستلقي في عرينه يراقب حركة الوافدين سواء من أبناء المدينة أو الغرباء وكذا المصطافين على الشواطئ الساحرة. وقد كان هذا الحصن الحصين في الماضي البعيد العين الساهرة التي لا تغفل عن الغزاة من البيزنطيين والنورمانديين والإسبان والقراصنة العثمانيين وغيرهم ممن يستهدفون التراب التونسي، وبات اليوم الرقيب لحركة الصيادين والسفن السياحية وقوارب أحباء البيئة من زوار أرخبيل جزر قوريا التونسية موطن السلحفاة البحرية في المتوسط، وغيرها.
وتقع مدينة المنستير حيث يتواجد هذا الرباط في منطقة الساحل، بالوسط الشرقي للبلاد التونسية على بعد 168 كيلومترا من العاصمة تونس باتجاه الجنوب وهي من مدن الواجهة البحرية الشرقية لتونس المطلة على الحوض الشرقي للمتوسط. ففي تونس واجهتان بحريتان، واحدة شمالية مطلة على الحوض الغربي للمتوسط وأخرى شرقية مطلة على الحوض الشرقي للمتوسط، بالإضافة إلى منطقة الوطن القبلي المطلة على مضيق صقلية الفاصل بين حوضي المتوسط، والجزر المتناثرة في الحوضين والمضيق ومن بينها أرخبيل جزر قوريا وجزيرة الديماس التي تقع جميعها قبالة ساحل ولاية المنستير.
أدوار متعددة
وتسمية الساحل التونسي تطلق على الولايات الثلاث المذكورة دون سواها من المدن الساحلية التونسية لأن هذه الولايات مجاورة لمدينة القيروان التي أصبحت بعد الفتح الإسلامي وقبل تخريبها من قبل بني هلال عاصمة البلاد التونسية والمنطقة المغاربية. وكانت المدن الساحلية القريبة من مدينة القيروان، التي لا تطل على البحر مثل أغلب الحواضر الإسلامية الكبرى، تسمى ساحل القيروان ثم حذف إسم القيروان وأصبحت تسمى مدن الساحل ومن ذلك مدينة المنستير.
وبما أن القيروان التونسية كانت هي العاصمة وكان يخشى عليها من الغزاة البيزنطيين والنورمانديين فقد تم تحصين المدن الساحلية القريبة منها برباطات مهمتها بالأساس عسكرية حمائية باعتبار كثرة الغزوات التي كانت مسلطة على تونس من جهة البحر. كما لعب الرباط دورا دينيا حيث عرف المرابطون في هذه الرباطات بزهدهم وصلاحهم وتصوفهم وكانوا يعتبرون إقامتهم في تلك الرباطات نوعا من أنواع الدفاع عن الدين بوجه غزاة لا يدينون بالإسلام.
لقد ساهم هذا الرباط في جعل المنستير مزارًا دينيًا بعد مدينتي القيروان وتونس، ونالت المدينة بفضله قداسة في جهة الساحل جعلت الناس يتبركون بترابها ويرغبون في دفن موتاهم بها. ويذكر المؤرخ الإدريسي في هذا الإطار أنه «بهذا المكان، أعني المنستير، يدفن أهل المهدية موتاهم، يحملونهم في الزوارق إليها فيدفنونهم بها، ثم يعودون إلى بلدهم».
باختصار كان دور الرباطات في الإسلام شبيها بدور الأديرة في الديانة المسيحية من الناحية الدينية، فكان المرابط يعيش في رباطه زاهدا مثل الراهب المسيحي في ديره بعد أن نذر نفسه وحياته لفعل الخير وتوعية الناس. كما كان دور الرباط شبيها بدور المواقع العسكرية المتقدمة التي تتولى مهمة الرصد والاستطلاع والإنذار المبكر من الناحية الحربية، فكان المرابط كالجندي المتأهب لأي خطر داهم والذي في غفلة منه قد تحصل الكارثة.
كما لعب رباط المنستير دورا تعليميا حيث كان مقصدا لطلاب العلم باعتبار تواجد العلماء فيه من الزهاد ممن نذروا أنفسهم تطوعا لخدمة دين الله وخدمة عباده. فكانت تقام فيه الدروس في زمن السلم تماما مثلما هو الحال في المساجد الكبرى على غرار جامع عقبة بن نافع بمدينة القيروان وجامع الزيتونة المعمور بمدينة تونس. ومن أشهر علماء القيروان الذين مروا بهذا الرباط عالم الفقه وناشر المذهب المالكي في ربوع شمال أفريقيا مع إبن زياد القيرواني، الإمام سحنون بن سعيد القيرواني، وفاتح صقلية والجنوب الإيطالي القاضي أسد بن الفرات القيرواني، وعالم الطب القيرواني أيضا الطبيب أحمد بن الجزار.
ولعب رباط المنستير أيضا دور المنارة التي تهدي السفن داخل البحر الأزرق المترامي إلى اليابسة باعتبار علوه الهام في ذلك العصر الذي لم يكن يعرف البناءات الشاهقة، وكان برج الرباط الدائري من أعلى البناءات في ذلك العصر. فالمنستير وكل مدن الساحل هي سهول منبسطة لها واجهة بحرية، ولا توجد بها جبال خلافا لشمال وغرب تونس، فكان لزاما أن يرتفع برج الرباط ارتفاعا معتبرا ويلعب دور الرقابة ودور هداية السفن في نفس الوقت.
تغييرات عبر التاريخ
تم تشييد رباط المنستير سنة 796 للميلاد من قبل هرثمة بن أعين والي القيروان عاصمة أفريقية (تونس وشرق الجزائر والغرب الليبي) وذلك زمن الدولة العباسية. وأعطى الأوامر لتشييد هذا الحصن المنيع الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي كان يخشى على أفريقية (الإسم القديم لتونس الذي تم منحه لاحقا للقارة) من هجمات البيزنطيين. فموقع تونس على مضيق صقلية وفصلها مع إيطاليا للمتوسط إلى حوضين حتى صارتا مفتاح السيطرة عليه بامتياز، جعلها مطمعا للغزاة على مر التاريخ.
وعندما بُني رباط المنستير لم يكن بشكله المعماري الحالي، حيث عرف تغييرات عديدة على مر التاريخ سواء في عهد الأغالبة أو الفاطميين أو الزيريين أو الحفصيين، أو مع الغزاة العثمانيين أو في زمن حكم المراديين ثم الحسينيين، حتى أصبح على هيئته التي هو عليها اليوم. فعند بنائه كان يتشكل فقط من صحن مستطيل ومن أبراج دائرية في أركانه ومن مئذنة أسطوانية، وتحيط بالصحن أروقة تفتح عليها غرف المرابطين من حماة الديار في تلك العهود.
كما يوجد بالرباط مسجد باعتبار التدين الشديد الذي كان عليه المرابطون في تلك الحصون والذين لا علاقة لهم من قريب أو من بعيد بدولة المرابطين التي نشأت في أقاصي البلاد المغاربية ووصل نفوذها إلى الأندلس. فرباط مدينة المنستير سابق لنشأة دولة المرابطين كما بقية رباطات الساحل التونسي على غرار رباط سوسة، حيث بنيت جميعها خلال القرن الثاني للهجرة في زمن استتب فيه الإسلام في ربوع أفريقية (الإسم القديم لتونس في العهد الإسلامي).
ويعتبر برج المراقبة أو المنارة من أهم مكونات الرباط وهي على شكل أسطواني ويتقلص سمكها صعودا إلى الأعلى ويبلغ ارتفاعها 10 أمتار، ويتم الصعود إليها من خلال سلم دائري طويل ومتعب بالنسبة لمن أثقل جسمه بما لذ وطاب من الأطعمة خلافا للزهاد والنساك في ذلك الحصن من المرابطين الذين افتقدوا اللهفة على ملذات الحياة ونذروا أنفسهم لخدمة دين الله وللدفاع عن الثغور مجانا. ويشتمل الدرج على 89 درجة وتتسرب إليه الاضاءة من فوهات صغيرة أثناء النهار فيما كان يتم إشعال النيران على طول الدرج ليلا حتى يتمكن المرابطون من الصعود والنزول والتداول على الحراسة لرصد حركات أساطيل الأعداء وإرسال الإشارات إلى الرباطات الأخرى والحصون المتقدمة حتى يتم الاستعداد لدحر الغزاة.
ومن التغييرات التي طرأت على رباط المنستير إضافةُ جناح على شكل سقيفة موازية لمدخل الرباط ويفصل بين المدخل القديم والجناح الجديد صحن صغير، وهذه السقيفة شبيهة بسقيفة جامع المهدية الفاطمي ويعود تاريخ هذا الجناح إلى أواسط القرن الرابع الهجري. كما تمت توسعة الرباط إلى أربعة آلاف ومئتي متر مربع وذلك خلال القرن التاسع للهجرة، أي زمن الدولة الحفصية وقبل الغزو العثماني لتونس وذلك بعد إطباق الباب العالي على كل من طرابلس الغرب والجزائر ومنهما تم الدخول إلى تونس.
ومع نهاية حكم الأسرة المرادية، أي مع بداية القرن الثامن عشر وقبيل تولي العائلة الحسينية للعرش والذي تواصل إلى سنة 1957 تاريخ الإطاحة بالنظام الملكي في تونس، تمت تهيئة الجناح الشرقي للطابق الأرضي للرباط، وتمت إضافة أبراج متعددة الأضلاع في الركنين الشمال غربي والجنوب شرقي، وتمت إضافة البرج الإسطواني للركن الشمال شرقي. كما تم خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر وفي زمن الدولة الحسينية ترميم الحصن بشكل كامل وتدعيم أعمدته وأركانه ليصبح واحدا من أهم المعالم التاريخية في العهد الإسلامي في تونس ويتم الحفاظ عليه إلى اليوم.
أهم المعالم
بات الرباط اليوم أبرز معالم مدينة المنستير التونسية بالإضافة إلى ضريح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وسور المدينة العتيقة وغيرها، حتى أن المنستير تسمى مدينة الرباط، وفيها إذاعة تسمى إذاعة الرباط، وشعار ناديها الرياضي الاتحاد الرياضي المنستيري فيه الرباط، وكذا شعار بلديتها. ويحتل الرباط مكانة هامة في وجدان أهالي المنستير وله قداسة كبيرة بالنظر إلى دوره السابق الحمائي والدعوي ويتم تعهده بالترميم والعناية وإخراجه باستمرار في حلة رائعة للزوار التونسيين والأجانب باعتبار أن مدينة المنستير هي من أهم المدن السياحية التونسية.
ويعتبر الرباط إلى جانب الشواطئ النظيفة والاستثنائية لمدينة المنستير والفنادق الراقية وضريح الزعيم بورقيبة ومتحفه بالقصر الرئاسي الأسبق بصفاقس، أهم المزارات السياحية لمدينة المنستير. فالصاعد في الرباط يتنعم بالمنظر الجميل لساحل مدينة المنستير حيث الرمال الذهبية والبحر المترامي شديد الزرقة، إضافة إلى الميناء السياحي القريب أو المارينا، وكذلك مدفن الزعيم بورقيبة الذي يقع في الخلف كما المدينة العتيقة وجامع الإمام المازري وغيرها. ويلفح زائر الرباط نسيم البحر ويستذكر تضحيات المرابطين حين كانوا في الأزمنة الغابرة إذا شاهدوا أو استشعروا خطرا قادما من البحر أشعلوا النيران لتراهم الرباطات المجاورة في سوسة وغيرها ويتم الاستعداد لحماية مدينة القيروان حيث مركز الحكم ومقر إقامة الأمراء والملوك ورجال الدولة.
كما يقصد السياح المتحف المقام داخل الرباط والمسمى متحف علي بورقيبة للفنون الإسلامية، الذي يتضمن نفائس لا تقدر بثمن على غرار المخطوطات النادرة المكتوبة بالخط الكوفي. كما يتضمن مخطوطات كتبت بماء الذهب وبالخط القيرواني التونسي الذي أصبح يسمى الخط المغربي باعتبار الخلط الذي يحصل في أذهان البعض بين المنطقة المغاربية ككل والتي كانت تسمى بلاد المغرب في الماضي وبين المملكة المغربية التي أطلقت على نفسها حديثا هذه التسمية واستأثرت بها ونسب إليها كامل موروث بلاد المغرب الإسلامي بما في ذلك الموروث الحضاري لمدينة القيروان التونسية.
كما يتضمن متحف رباط المنستير آلة فلكية لقياس ارتفاع الكواكب تصنعت في قرطبة سنة 927 للميلاد، وأواني من البلور والخزف تعود إلى عصور الأغالبة والفاطميين والزيريين وهي دول حكمت تونس واتخذت من مدينتي القيروان والمهدية التونسيتين والقريبتين من المنستير عواصم لها. ويتضمن أيضا تحفا من المنسوجات القديمة ومنمنمات ترجع إلى تلك العهود الإسلامية التي باتت فيها تونس اليوم أو أفريقية كما كانت تسمى في الماضي مضاف إليها شرق الجزائر والغرب الليبي، دولة مستقلة عن الخلافة الإسلامية في المشرق.
وتحاذي الرباط الديكورات التي تم فيها تصوير حلقات من مسلسل «عيسى» وفيلم «مغامرو السفينة الضائعة» وغيرها من الأفلام والمسلسلات حيث يستهوي رباط المنستير مخرجي ومنتجي الأفلام في العالم خاصة مع وجود مركبات فندقية ومنتجعات للإيواء بمحيطه. كما يوجد بالمدينة مطار دولي يمكن أن يشجع صناعة تصوير الأفلام هو مطار الحبيب بورقيبة الدولي بالمنستير باعتبار أن المدينة هي مسقط رأس الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ومكان دفنه. ويحتضن الرباط خلال فصل الصيف عدة تظاهرات ثقافية وفنية ومنها مهرجان المنستير الدولي الذي استقطب أبرز الفنانين التونسيين والعرب والأجانب ولفتت عروضه الانتباه باستمرار على غرار كبرى المهرجانات التونسية مثل قرطاج والحمامات والجم.
وقد قيل كلام كثير في الرباط من قبل المؤرخين والأدباء والمفكرين وأيضا الشعراء على غرار هذا المقطع الشعري للشاعر التونسي الصادق مازيغ وعنوان القصيدة من وحي الرباط ويصف الشاعر تونس الخضراء بالمرأة الجميلة أو العروس في الجلوة، وهي عادة تونسية قرطاجية تتشبه فيها المرأة التونسية بتانيت آلهة الخصب عند القرطاجيين بعد أن ترتدي اللباس التقليدي وتخرج لتتجلى للحاضرات. ويصف الشاعر الرباط بأنه درة العقد الذي ترتديه تونس العروس والذي يعجب به الحاضرون ويثنون عليه، وتحدث عن الدين والتقوى اللذين عرف بهما المرابطون في حصن المنستير وهو ما جعل الرباط صاحب فضل على الناس في تلك الربوع أمنيا وتعليميا وفيما يلي هذا المقطع:
عدت الخضراء زهر المناقب
وتاهت على الدنيا بجلوة كاعب
الرباط الفذ درة عقدها
وموجب اطراء لها في المواكب
الدين والتقوى ابتناه حماتها
فثاب اليه الفضل من كل جانب.