استسلم الجزائريون لسبات عميق دام عقدين من الزمن، إثر انسحابهم من الحياة السياسية بعد عشرية سوداء دامية، تسعينيات القرن الماضي، ليعود بهم التاريخ اليوم إلى الشارع مرة أخرى، لست أدري هل كُتب الشقاء على هذا الشعب الذي يعيش التعاسة السياسية بجميع تفاصيلها، التي تنفذ بأيدي أصحاب المهمات الحكومية القذرة، فعلى الرغم من ثراء هذا الوطن ثقافيا، تاريخيا، اجتماعيا، ماديا، وعلى جميع الأصعدة الأخرى؛ بما في ذلك تخمته بأصحاب المال الفاسد، الذين اقترنوا بالفاسدين في مفاصل الحكم والسياسة، إلا أنه منذ القدم لا يكاد يستقر حتى يعود للفوضى السياسية والاقتصادية من جديد.
كانت القطرة التي كسرت صبر الجزائريين هذه المرة هي ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، فعلى الرغم من مرضه الخطير وغيابه عن الساحة السياسية منذ 2013، إلا أن محيطه أبى إلا أن يرشحه، مرتكبين بذلك خطأً استراتيجيا قاتلا، لا يقع فيه المراهقون في السياسة، مراهنين على شعبيته التي نفد رصيدها عند الجزائريين بنهاية العهدة الثانية سنة 2009، وفي الوقت نفسه لم يتوقعوا حجم الرفض والامتعاض الذي رأوه في الشارع، بدليل خطاب التهديد الأول لرئيس أركان الجيش ورئيس الوزراء، قبل أن يسارعا إلى التهدئة عندما رأيا أن كل الجزائر انتفضت لتلك المهزلة السياسية، إن ترشيحهم للرئيس بوتفليقة للعهدة الخامسة كشف لهم ردة فعل الشارع، الذي تعلم كثيرا من ثوراته السابقة، وحرص في كل تظاهراته على نبذ العنف والشعارات الطائفية والعرقية، وكشفت لنا أيضا حجم الارتباك داخل قصر الرئاسة، من خلال الرسائل المنسوبة للرئيس، التي تحمل بين طياتها الكثير من التناقضات، والتساؤلات المشروعة عمن يخاطب الأمة الجزائرية باسم رئيسهم، إلى أن صرّح الناطق الرسمي باسم حزب الموالاة RND صدّيق شهاب، بأن قوى غير دستورية تسير البلاد منذ أكثر من خمس سنوات، وأصبح تبادل التهم والتخوين ببين أحزاب الموالاة هو السمة الظاهرة، بل تنافسوا لتلميع صورتهم من خلال مدح سلمية الحراك الشعبي، في محاولة منهم لإعادة التموقع مرة أخرى في المعارضة، استعدادا للعب دور في الحكومة المقبلة، ليقينهم بأن مناورة المحيطين بالرئيس قد حكم عليها بالفشل، بعد أن قفزت كل الشخصيات التي كانت تدافع باستماتة عن الرئيس المغيب وعن برنامجه المشوه من السفينة التي تغرق، لكن الشارع قال كلمته فيهم «إرحلوا جميعا».
كل الشخصيات التي كانت تدافع باستماتة عن الرئيس المغيب وعن برنامجه المشوه قفزت من السفينة التي تغرق
على المستوى الشخصي لم أكن أتمنى للرئيس الجزائري أن تكون نهايته هكذا، فالرجل له تاريخ سياسي حافل، وتقلد مناصب عليا وهو في سن صغيرة، ما أكسبه شهرة واسعة بُعيد استقلال الجزائر، زادت شعبيته عند استلامه الحكم في الجزائر خلال العهدتين الأوليين من حكمه، يحز في النفس أن ينتهي تاريخه السياسي على يد عمار غول واحمد أويحيى وعبدالمالك سلال وعمار سعيداني وبوشوارب وقائمة طويلة من الانتهازيين المتسلقين. أما لمن يسأل عن الحل في هذا المنعرج التاريخي، فأقول أنه مطلوب في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الجزائر تغليب قوة العقل والمنطق على سياسة التهديد والتنديد، فالوطن بحاجة إلى جميع المخلصين من أبنائه في الداخل والخارج، للمساهمة في عملية بناء جزائر الغد، التي تقوم على مبدأ الشفافية والديمقراطية وتكافؤ الفرص، ومرافقة الشباب في ممارسة العمل السياسي لتسليمهم المشعل مستقبلا، ومنحهم الثقة لوضع لبنة في جزائرهم، وتثمين روح المسؤولية التي تمكنهم من تسيير مؤسسات الدولة بما يقتضيه الوفاء لأرواح شهداء التحرير والإخلاص للوطن، كما أن إعادة الهيبة والاستقلالية للمؤسسات القضائية، في تقديري هي نقطة الانطلاق في طريق الألف ميل، بدءاً من قيامهم الآن بتشكيل لجنة من الخبراء القانونيين والحقوقيين لتمسك بزمام المبادرة، والحفاظ على الدستور من الاختراقات، بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات في الشارع على نحو تصعيدي، وسيكتب التاريخ أنّ عبدالعزيز بوتفليقة، قد تباطأ في تسليم المشعل، وناور كثيرا لمحاولة إحداث تجاوزات، وعمل على اختراق الدستور وكسر هيبته، وماطل لكسب مزيد من الوقت للذهاب بالجزائر إلى فراغ دستوري، وحاول خلق أزمة اقتصادية لدولة وشعب أعطوه كل شيء، ولم يرد في آخر أيامه أن يعطيهم أي شيء.
كاتب جزائري