طيش اللغة… ‘الحقيقة’ هي أكثر الكلمات زيفًا، منذ بدأ البشر في استعمال اللغة؛ فكل ما نعتبره ‘حقيقة ‘ هو مجرد روايات عنها، حتى ما يخص أحداث حياتنا الخاصة. لا تخرج الواقعة التي نحن شهودها أو مشاركون فيها عن كونها قصة، أي حكاية مروية من وجهة نظر خاصة لا تلتقي مع وجهة نظر مشاهد أو مشارك آخر.
وهذا الإنتاج المحموم من القصص لا يكتب له البقاء، حيث تحل قصص و أخبار المساء محل قصص وأخبار الصباح، وحسب ميشال بوتور في بحوثه حول الرواية الجديدة ‘يجب أن يٌنسى دائمًا ما كان حقيقيًا أمس لكي لا يبقى في أذهاننا إلا ما هو حقيقي اليوم’. وطبقًا لهذا القدر من الموت الذي يلاحق الحكاية يرى بوتور أن الأحاديث العامية تتلاشى باستمرار ولا مفر للكلمات من تغيير معانيها، حتى يجد سكان حيين في مدينة واحدة أنفسهم يستعملون الكلمات ذاتها للدلالة على أشياء مختلفة.
ومن هنا يأتي دور النص المقدس والشعر في ضبط اللغة اليومية وإعادتها إلى جادة الصواب، وقبل أن يتكلم بوتور عن ‘الكتاب المقدس’ بوصفه كتابًا لغويًا يشير إلى موقع القرآن في المدينة الإسلامية بوصفه ‘قاموس الفقراء’ أو ربما الأدق ‘قاموس العامة’ الذي يحتكم إليه الجميع عند الاختلاف على معنى كلمة.
للمقدس هذه المكانة لأنه منعزل في مكان خاص. ومن العزلة نفسها تنبع مكانة الشعر، فالطفل يعود من المدرسة ويسأله أبواه عما فعله اليوم فيقول ‘أخذنا قصيدة’ وهذا الرد كاف للثلاثة كي يعرفوا أن ما تعرض له الطفل اليوم هو كلام خاص، معزول عن كلام العامة إما بقوة العروض كما في القصيدة القديمة أو بقوة الصورة ـ التي تزيح الكلمة عن مكانها البديهي في الأداء اليومي وتحرمها من التعبير عن غرضها تعبيرًا كاملًا ـ كما في القصيدة الحديثة.
ما يقوله بوتور عن لغة المقدس ولغة الشعر لامع ـ ولا نقول: حقيقي ـ فهو استقراء لواقع يصفه الكاتب من خلال مراقبته لتواريخ المقدس والأدب الطويلة. ولامع أيضًا ما استخلصه الإمام علي من حوادث عمره الخاص مع القرآن ‘إنه حمالُ أوجه’ وكلا الخبرتين تتطابقان مع خبرة أقل من ثلاث سنوات هي عمر الربيع العربي الذي غاب عنه الشعر غيابًا كاملاً وحضر فيه القرآن حضورًا كاملًا.
أذى المبتذل
جاء الربيع ولم يجد تحت حمامة الشعر بيضًا يمكن أن يفقس أفراخًا تهدل فتسهم في إعطاء الفصل صورته التي نعرفها بالتقريب عندما نسمع كلمة ‘ربيع’. ليس هناك من قصائد تأخذ اللغة إلى عزلة العروض أو عزلة الصور الجديدة التي تعيد للقصة صوابها وتحفظ للكلمات معان متقاربة لدى الفرقاء الشركاء.
ليس لدينا من الشعر ما يكفي لكي يرد لغة العامة عن العيب، وبالمقابل يحتل القرآن المركز بحكم وجود فصيل سياسي يعيش للمقدس وعليه يتعيش؛ ولم ينجح ذلك الإفراط في رفع لغة العامة درجة باتجاه المعنى، لكنه نجح في جرجرة المقدس إلى الخطر الذي يخشاه بوتور على العامية، وجعله يتجاوز منطقة تعدد المعنى التي عاينها الإمام، إلى حالة الانتفاء. ذلك هو الأذى الذي يوقعه المبتذل بالمقدس.
قتلى و شهداء
حتى اليوم لا يمكن لأحد أن يمسك بوجه ‘الحقيقة’ في وقائع القتل ابتداء من وقائع موت أيقونتي أول ثورتين ‘خالد سعيد’ و’محمد البوعزيزي’ صعودًا مع ما يتم سفكه من دماء حتى اليوم. لا المحاكم أدانت قاتلاً ولا من قاتل أو متسبب في القتل اعترف بجرمه. نرى النعوش بأجساد منضبطة داخلها لا كما تنضبط اللغة في الشعر بحدود العروض والمقاطع ونرى صورًا لوقائع جريان الدم تتجاوز غرابة الصور في قصيدة سوريالية، ولا أمل في معرفة شيء عن ‘حقيقة’ القاتل والمقتول.
حتى الآن، ليس هناك من يغار على كرامة الحياة فيجتهد في توصيف واقعة القتل التي يراها، الكل يهرب إلى ما لم يره ويصف بيقين يحسد عليه لحظة الحساب.
‘شهداؤنا في الجنة وشهداؤهم في النار’ هكذا يتكلم أعضاء جماعات العنف المقدس ليدفعوا بمزيد من الشباب إلى الأتون، والآخرون يبزونهم في الهروب إلى الآخرة تفاديًا لوصف وقائع اللحظة.
‘أزف، لا أنعي، أزف شهداء الوطن من ضباط وأفراد الجيش’ هكذا شدد المتحدث المتأنق في فضائية مصرية ثم انصرف إلى بيته وحياته، بينما تعيش أم الجندي الضابط حزنها حتى تلتحق بالعريس الشهيد!
‘احرقوا ما شئتم من كنائس، لكنكم لن تستطيعوا أن تنزعوا سورة من القرآن باسم العذراء مريم’ هكذا غرد على تويتر شاب مسيحي وجد كنائسه هدفًا في حرب مغلوطة.
يقول بوتور ‘إن المدنية التي تلعب فيها العناصر المقدسة دورها بإتقان تؤمن بقاء عالم العامة، وهذا ما يسميه العلماء المجتمع البدائي’ وهذا للأسف هو مأزق الربيع الذي ولد من أجل تحسين نسبي لوقائع أرضية يمكن لمسها فإذا به يفتح ممرًا غير آمن لربيع سماوي؛ لما لم نره من فصول الآخرة.
هذا التلخيص (المخل ) لكل الموضوع ….رائع .
صدقا من أروع ماكتبت حضرتك .