استعار كثيرون، ضمن الجدل الذي دار بعد انتحار المناضلة المصرية سارة حجازي، النقد الموجه لسياسات الهوية و»اليسار الليبرالي»، لإبداء مواقفهم الرافضة لطرح القضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي، والميل الجنسي في الإطار السياسي والثقافي العربي. يتنوّع نقد الهوياتية بين تيارات سياسية وفكرية عديدة: اليسار التقليدي، النزعة الجمهورية، الفكر المحافظ، الليبرالية الكلاسيكية، التيارات القومية، فضلاً عن اتجاهات فكرية رافضة لمبدأ الهوية أساساً. يستنكر كثير من «اليساريين الليبراليين» أيضاً اتهامهم بالهوياتية، ويفضّلون القول إنهم من أنصار «سياسات التنوّع». عموماً لا تبدو استعادة هذه الأنواع المتعددة من النقد عربياً معنيّة لحد كبير بأسسها النظرية والسياسية في السياق الغربي، بقدر استخدامها في مواجهة أسئلة حاسمة عربياً، تتعلّق بالصراع على الدولة والمجتمع والثقافة السائدة.
تبدو الدول العربية عموماً متمسّكة بمبدأين رئيسيين، يطالب بهما أيضاً عدد كبير من الثائرين عليها، أولهما تحقيق «إرادة شعبية» ما، مستمدة من ثقافة أو تطلعات أو مصالح مشتركة لـ»الشعب»، أو «المجتمع». وثانيهما «النزعة الاجتماعية»، أي تأمين دعم حكومي للفئات الأفقر، حتى وسط إجراءات التقشف وتحرير الأسواق والأزمات الاقتصادية. الخلاف الأساسي يدور حول مدى إنجاز الدولة لهذين المبدأين، و»صدقها» في السعي لتحقيقهما. ما يجعل خطاب كثير من المعارضين، خاصة من التيارين الإسلامي واليساري التقليدي، مشابهاً للخطاب السلطوي.
أما الحقوق والحريات الأساسية، ومنها مبدأ حياد الدولة الديني، الضروري لتحقيق المساواة أمام القانون، رفع القوانين التي تحدّ من الحريات الفردية، ومنها حرية تقرير المصير الذاتي، في ما يتعلّق بقضايا مثل المعتقد والتعبير الجسدي والخيارات الجنسية، فتُرفض أو تؤجل، باعتبارها متنافية مع ثقافة مجتمعية مفترضة، أو غير ذات أولوية.
الملاحظ أن سعي هذا النوع من «المعارضة» يفشل دوماً حتى في تحقيق ما يعتبره «قضايا أساسية»، فمحاولة دمقرطة الدولة، لتحقيق الإرداة الشعبية والتنمية ورفع المستوى المعيشي، تصطدم دوماً بعوائق مترسخة في بنية المؤسسات والأجهزة السلطوية والقانون. ما يجعل أي شكل من التغيير متعذراً، حتى لو وصل المعارضون للسلطة بمعجزة ما، ولذلك ربما كان التأجيل الدائم لطرح مسألة الحقوق والحريات الأساسية مساهماً في انسداد الأفق السياسي، الذي يمرّ به العالم العربي. فهل يمكن لمطالب، تُنسب عادة لـ»اليسار الليبرالي»، أن تساهم في تغيير هذا الوضع؟ وما هي الأزمات الفعلية التي تواجه هذا التيار؟
«التقدمية» المحافظة
لا يواجه «اليسار الليبرالي» في الدول الغربية مشكلة أساسية في ضمان الحريات والحقوق الأساسية على المستوى القانوني، وقد تكون مشكلته الأبرز هي التوفيق بين مبدأي المواطنة المجردة والمساواة أمام القانون، المنصوص عليهما دستورياً، وضرورة مراعاة عدم المساواة الملموسة في ظروف الجماعات المختلفة، خاصة «المهمشة» منها. لا يمكن، حسب هذا المنظور، اعتبار أن النساء أو السود أو المثليين منطلقون من مواقع متساوية اجتماعياً مع الآخرين، حتى تُطبق عليهم مساواة قانونية مجرّدة، ولا بد من «تمكين» هذه المجموعات مؤسساتياً، وحتى قانونياً إن أمكن. وهنا يكمن الخلاف مع نزعة جمهورية، ترفض النظر إلى «الخصوصيات» الاجتماعية، وتعتبر التأكيد عليها نوعاً من الطائفية.
لا يمكن تجاهل عمل كثير من الناشطين الليبراليين العرب في مؤسسات «غير حكومية»، ممولة من حكومات غربية، أو تأثرهم الشديد بفكر «اليسار الليبرالي» الغربي، ولكن، ودون تجاوز مظاهر الفساد الكثيرة في «المنظمات غير الحكومية» العربية.
يعتبر جانب كبير من التنظير الليبرالي المعاصر، كما نجده في كتابات مفكرين مهمين مثل، جون رولز وتشارلز تايلر، أن الوصول إلى المساواة يفترض أولاً تحديد البشر بوصفهم غير متساوين، والنظر إلى الفروقات الكثيرة التي تشكّل شرطهم الاجتماعي والثقافي. ورغم وجاهة هذه الفكرة فهي قد تؤدي إلى تناقض أساسي: تعيين جماعات غير متساوية، يجب العمل على تمكينها للوصول للمساواة، سيجعل البشر يتنافسون على إبراز ضعفهم الاجتماعي، للحصول على ما يتيسر من الدعم والمحاباة. تغدو المساواة نفسها غير مطلوبة بقدر التركيز على بناء وتعيين هرمية اللامساواة، التي على أساسها يتحدد تعامل المؤسسات مع الأفراد والجماعات، ما يجعل اللامساواة هي القاعدة، أو بالأصح تصبح «العدالة الاجتماعية» أسلوباً لإدارة اللامساواة الدائمة.
ومع زوال معظم العقبات القانونية أمام المساواة، يصبح تتبع التمييز في المؤسسات قائماً على أساس مصغّر Micro، أي الأفعال والأقوال الجزئية والصغيرة، التي قد تحتوي على استبعاد أو إهانة أو اعتداء، سواء كان مقصوداً أو غير مقصود، على الفئات المهمشة، ما يؤدي بدوره إلى تحكّم مصغّر باللغة والفعل، ويفرض فوقياً نوعاً من السلوك واللباقة، تقرره إدارة المؤسسات المتهمة بالتمييز البنيوي نفسها.
يمكن القول إن هذا الطرح محافظ بالعمق، فإدارة اللامساواة الدائمة ضمن المؤسسات القائمة، وتحويل «العدالة الاجتماعية» إلى دعوى تأتي من المتن الاجتماعي، يجعل الحفاظ على الوضع القائم، وتسييره ضمن شرطه المترسّخ، هو الأساس. كما أن مبدأ «التنوع» يضمر في ذاته تراتبية ما للمجموعات المتنوّعة، بناء على خصائصها أو حالتها الاجتماعية الراهنة. وهذه التراتبية طالما دافع عنها الفكر المحافظ، لذلك يصعب اعتبار «اليسار الليبرالي» الغربي المعاصر يساراً أو حتى ليبرالياً، ليس يساراً لأنه يعبّر عن المؤسسات القائمة، وصار أيديولوجيا الطبقة المهيمنة، أي برجوازية المدن الكبرى. وليس ليبرالياً، لأنه كثيراً ما يتجاوز مرونة حرية تقرير المصير الذاتي، لحساب نمط من التعليب الهوياتي، ويُضعف «الذات القانونية» الفردية، ومبدأ المساواة الشكلية أمام القانون، وهما أساس كل طرح ليبرالي، لمصلحة النظر للهوية و»السياق الثقافي»، فضلاً عن ميله للتحكّم باللغة والممارسة الثقافية.
ربما كان تحطيم المتظاهرين السود للمؤسسات القائمة، في احتجاجهم على العداون الكبير الذي يتعرّضون له يومياً، أكثر تقدمية بكثير من طروحات «اليسار الليبرالي».
يسارية الليبرالية العربية
إلا أن الوضع في العالم العربي مختلف بشكل كبير، فالمطالبة بالحريات والحقوق الأساسية لا يتم على صعيد مصغّر، أو بناءً على «حساسيات» تصعُب ترجمتها للغة عقلانية مشتركة، بل في مواجهة جهاز قمعي وأيديولوجي متكامل، يشكل عائقاً صلباً أمام نمو وإعادة إنتاج الحياة نفسها. وبالتالي فإن الدفاع عن قيم مثل حرية الضمير والعقيدة، بما فيها حق تغيير الدين ونقده، الحرية الجنسية؛ المساواة أمام القانون للنساء وغير المسلمين؛ عدم معاقبة المثليين على ميولهم وتعبيرهم عن ذاتهم، كلها مطالب موجهة ضد المؤسسات القائمة وما يُفترض أنه «المتن الاجتماعي»، الذي تحلل بتحلل دولة الاستقلال العربية. الأمر الذي يجعل المطالب الليبرالية في السياق العربي تقدمية بالضرورة.
لا يمكن فصل حجب الحريات والحقوق الأساسية عن الهيمنة الطبقية في العالم العربي، فانفتاح الحيز العام سيؤدي إلى تعبير فئات واسعة، من الطبقات الأدنى، عن مطالبها، مثل النساء العاملات، اللواتي تساهم عدم المساواة القانونية في تكريس وضعهن الاجتماعي المتردي؛ أبناء الأقليات والمناطق الأفقر، الذين يمتّن تعرضهم للاضطهاد الإثني أو الديني أو الثقافي استغلالهم طبقياً؛ وكثيراً من مثليي الطبقات الأدنى، الذين يتعرضون لأشكال مختلفة من الاستغلال والاستبعاد على أساس ميلهم الجنسي، وبالتالي فلا يمكن لأي عمل سياسي يساري فعلي أن يتجاوز المطالب الليبرالية.
لليسار الليبرالي، في الشرط العربي، فرص كبيرة ليكون أيديولوجيا التغيير الفعلي، وقد تقاطعت في الثورات العربية الأنجح، مثل التونسية والسودانية، كثيرٌ من المطالب اليسارية والليبرالية، في مواجهة السلطة القائمة.
إمبريالية ثقافية
هنالك نقد آخر يوجّه لليسار الليبرالي العربي، وهو ارتباطه بسلسلة من المؤسسات الغربية، التي تحاول فرض نوع «الإنسانوية الليبرالية»، بشكل فوقي، على المجتمعات المحلية، هذه «الإمبريالية الثقافية» تبدو اعتداءً خارجياً على خيارات وأنماط حياة إسلامية وعربية مستقرّة. التناقض الأساسي، الذي لا ينتبه له أصحاب هذا الطرح، أنهم يستعملون حججاً هوياتية، مشابهة بشكل كبير لحجج «اليسار الليبرالي» الغربي الذي ينتقدونه. هذا التشابه في الطرح يجعل المحافظين في المجتمعات العربية أقرب لـ»الإمبريالية الثقافية» الغربية من الليبراليين العرب، فسواء تابعنا خطابات إسلاميين متأثرين ببعض الطروحات السائدة في الجامعات الناطقة باللغة الإنكليزية، أو حتى تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عن «امتلاكنا لإنسانيتنا الخاصة»، في تبريره لقرارات إعدام صدرت بحق متهمين بالإرهاب، فإن هذه الطروحات تبدو مدافعة عن «خصوصية»، تقدّرها «الإمبريالية الثقافية» دوماً.
لا يمكن تجاهل عمل كثير من الناشطين الليبراليين العرب في مؤسسات «غير حكومية»، ممولة من حكومات غربية، أو تأثرهم الشديد بفكر «اليسار الليبرالي» الغربي، ولكن، ودون تجاوز مظاهر الفساد الكثيرة في «المنظمات غير الحكومية» العربية، فإن سياق نشاطها في مواجهة مؤسسات السلطة العربية، يدفع جزءاً مهماً من العاملين فيها إلى إعادة تأويل القيم التي يتلقونها، بشكل يساهم في تطوير العمل الديمقراطي في العالم العربي.
يبقى أنه لا يمكن اختزال المطالب اليسارية والليبرالية العربية بعمل هذه المنظمات، فلأكثر من عقد من الزمن لم تتوقف في العالم العربي الانتفاضات المطالبة بالتغيير الفعلي، وهي انتفاضات تعبّر عن حيوية اجتماعية كبيرة، لا يمكن لأي «إمبريالية» أن تنتجها.
٭ كاتب من سوريا