مدّد النوّاب وكالتهم للمرة الثانية دون الرجوع إلى موكّليهم، مع فارق أنّهم، في المرّة السابقة، جوّزوا لأنفسهم الأمر بداعي اعطاء الفرصة الكافية لاقرار قانون انتخابات يتفق عليه الأقطاب، والتمكّن من انتخاب رئيس للجمهوريّة يحول دون فراغ السدّة، في حين أجازوه لأنفسهم اليوم بداعي عدم انجاز الاستحقاقين، متذرّعين بالمسؤولية الوطنية، وبمفهوم استدامة الدولة ومؤسساتها الدستورية، لتحاشي الوقوع في الفراغ.
ومع أنّ الدستور اللبناني واضح في حصر مهام النواب اذا ما خلت سدّة الرئاسة بانتخاب الرئيس، تمكّن المجلس من تأمين نصاب التمديد لنفسه ولم يتأمّن نصابه لانتخاب رئيس.
في هذا الوقت، لم يظهر الشارع اللبناني امتعاضاً حقيقياً من التمديد الثاني، باستثناء تحرّك معزول شعبياً، ومغطّى ميديائياً للناشطين المدنيين والحقوقيين على هامشه. لكأنّ «مسخ الشرعية» الذي يقنع بها المجلس «ذاتيّ التمدّد» نفسه، هي تلك المستقاة من عدم تحرّك الموكّلين، وعزلة المتحرّكين مدنياً.
وهذا، في الواقع، يدلّ على المبلغ، الهزليّ، الذي وصلت اليه المؤسسات في بلد يتبدّى العطب الرئيسيّ لنظامه في هذا العجز، بعد انتهاء الحرب الأهلية، على اقرار قانون للانتخابات يتحلّى بشيء من التناسق والديمومة. فكان لكل انتخابات بعد الحرب قانونها المقرّ عشيّتها، والمنتخب «بتعيين الحصص»، بدلاً عن الهيئة الناخبة الى حد كبير، الى ان وصلنا في السنتين الأخيرتين الى تعطّل هذه الحلول «الترقيعية» نتيجة الافراط في «العروض الجذرية»، من مثل الدعوة الى اعتماد النسبية والدائرة الواحدة، أو الدعوة الى ان تنتخب كل طائفة نوّابها، ما جعل العودة الى عقدين من «الترقيع» في القانون الانتخابي متعذّراً.
رغم عزلة المتحرّكين مدنياً ضدّ التمديد الذاتي الثاني للمجلس، الا أنّهم يستندون الى منطق صلب وبسيط: اذ يكفي لموكّل لبناني واحد، لمواطن واحد، أن يرفض التمديد الذاتي للهيئة النيابية، كي يكون قد وضع هذه الهيئة النيابية في موقع اغتصاب حقوق الهيئة الناخبة. يبقى أن هذا المنطق الصلب والبسيط لا يمكن أن يفرز طرحاً برنامجياً من تلقائه. فالشعبويّة هنا قد تزيّن لنفسها أنّ القوى السياسية مدّدت لنوّابها لأنها تخشى الاحتكام لصناديق الاقتراع، وهذا غير صحيح. أقطاب الأوليغارشية اللبنانية هم بشكل عام مطمئنون على «قواعدهم الشعبية»، ولا يخافون عليها من ربيع شبابي يهتك عرض المحاصصة والزبائنية هتكاً.
فرضاً أحيل التمديد الثاني للمجلس على استفتاء شعبي عام والتزمت القوى السياسية بنفس خارطة التأييد له، لكانت أكثرية الناس صوتت ايجاباً على خيار التمديد، وربما زادت النسبة كون النواب تصدّقوا على الأمة باستفتاء يراعي الوكالة. وهذا جزء من المفارقة: الناس تشتم في «الطبقة السياسية» وتستثني منها القطب الطائفي الذي تدين له بالولاء، لكن الناس، اذا ما استفتيت، ستصادق على التسوية الأوليغارشية بالتمديد لهذا «الملأ» كما هو. في مكان ما هذا يبرز عمق المشكلة: ليس فقط قانون الانتخاب غير المتفق عليه منذ قيام «الجمهورية الثانية» والذي كان يهندس في غرف الوصاية السورية ثم ما عاد هناك من يهندسه. بل أيضاً، هذا الخوف الذي يطبع النظام اللبناني، اقتصادياً وسياسياً، من كل ما يمت بذي صلّة الى التنافس والتزاحم. ليس فقط في لبنان «الكثير من الحريات والقليل من الديمقراطية»، مقولة الرئيس سليم الحص الشهيرة، أو كذلك «الكثير من الحريات والقليل من السيادة الوطنية»، بل أن لبنان تقوم السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة فيه على مبدأ «الوكالات الحصرية». هدف الانتخابات يصبح اذاً تكريس الوكالات الحصرية، وليس انبثاق موكَّلين بفتح الكاف عن موكِّلين بكسر الكاف. هدف الانتخابات الأمثل هو اذاً: عدم ترك شيء للحظ. عندما يردّد اللبنانيون المعزوفة نفسها عن «قانون انتخابي مرتجى يؤمّن صحّة التمثيل» فإنّهم لا يفعلون سوى تعميق منطق الوكالات الحصرية هذا: صحّة التمثيل لا تعني هنا التنافس على التمثيل الأفضل، بل التمثيل المغني عن التنافس، التمثيل الذي لا يترك شيئاً للحظ. النظام اللبناني الأوليغارشي يعيننا تجريبياً في هذا، على فهم المباينة التي يقيمها ارسطو في كتاب «السياسة» بين الديمقراطية والأوليغارشية، حيث ينظر الى الديمقراطية على أنّ قوامها القرعة، فالحظ وحده هو الذي يمكن أن يجعل من أي محكوم حاكماً، وبين الأوليغارشية، وقوامها الانتخاب. هذا الربط الأرسطي للأوليغارشية بالانتخاب في مقابل ديموقراطية تعرّج على القرعة يحتاج الى التجربة اللبنانية لاستيعابه. الانتخابات فيها تظل مرتبطة بهدف مثالي تسعى اليه: عدم ترك شيء للحظ.
كل واحد يسدّد الانتقاد للآخر بتهمة أنّه يريد فتح الباب للحظ. عام 2013، ما عاد أحدٌ بامكانه القبول بالترقيعية السابقة التي كانت تبقي هامشاً معيّناً للحظ. قانون الدائرة الواحدة، كما النسبية ضمن القيد الطائفي، أو مشروع كل طائفة تنتخب نوابها (القانون الأرثوذكسي) تبارزت على سدّ نافذة الحظ. ثم دخلنا في دورة من الزمن، سمحت بها ظروف تمدّد الحروب الاهلية المشرقية، بما يقوي حجّة اسدال الباب أمام الحظوظ، بتأجيل الانتخاب والتمديد للمجلس ردحاً من الزمن.
التنافس. التزاحم. هذا طبعاً لا ينهض بالسعي اليه متحرّكون يعوّلون على التناقض بين «الشعب» وبين «الطبقة السياسية»، بل من يجذّر في نفسه القناعة بأن التنافس، لا الوكالات الحصرية، ضرورة رئوية للاقتصاد، للتجارة، للصحافة، للسياسة، للانتخاب، وكذلك الأمر، ضرورة للسوق العقارية، وضرورة للديموغرافية، فالنظام الذي يكابر على الديموغرافيا بحجة «اوقفنا العدّ»، والذي يكابر على مسار السوق العقارية برهاب بيع عقار من ابن ملّة لابن ملّة أخرى، فيما هو يؤكد في الوقت نفسه على قدسية الملكية الخاصة، انما هو نظام «دقيق» جدّاً، ودقّته لا مجال فيها للديموقراطية الا كرذاذ الأوليغارشية!
قانون يؤمّن صحّة التمثيل؟ هذا السؤال كان وما زال أصل البلاء في لبنان. هو السؤال الذي يسوّغ تمديد المجلس لنفسه الى ان يهتدي لقانون «يؤمن صحّة التمثيل»، وقبله كان يقال «يؤمّن الانصهار الوطني»، والتمثيل والانصهار سواء، من حيث البلاء. فالمفترض في الحالتين أن الأحجام جاهزة سلفاً قبل الانتخاب، أو هي لا تنتفخ عشيته الا بالتحريض والمال، أي بشكل مرذول.
اباحة التنافس، اقراره، تحويله الى قاعدة للقانون، للحياة، هو الردّ الحقيقي على تشمّع النظام اللبناني.
فرغم كل مظاهر «الحرية الاقتصادية والسياسية» اللبنانية، قياساً بالجوار العربي، الا انّ هذه الحرية فيه تقوم على «الحصريات» لا التنافس. حتى الحرب الأهلية اللبنانية، تحوّلت بسرعة الى رتابة «الحصريات» المتعايشة حيناً المتحاربة حيناً. هذا بخلاف الحرب الأهلية السورية «الحرّة التنافسية» بامتياز. من أين، اذّاك، يمكن ادخال جرعات تنافسية الى الجسم اللبناني، البليد جدّاً من هذه الناحية؟!
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة