إسطنبول – “القدس العربي”:
شهدت الأيام الأخيرة تبادلاً نادراً لرسائل إيجابية بين تركيا وأرمينيا ترحب بإمكانية الحوار وبدء خطوات تدريجية لكسر الجمود تمهيداً لإمكانية فتح صفحة جديدة في سجل العلاقات التاريخية الصعبة والمعقدة بين البلدين، في ظل تكهنات مختلفة حول مدى واقعية وإمكانية التفاؤل بقدرة البلدين على تجاوز الخلافات التاريخية الثقيلة.
وعلى الرغم من وجود متغيرات مهمة تدفع الطرفين نحو تقديم تنازلات لتجاوز الخلافات إلا أن مؤرخين وسياسيين يرون أن الإرث التاريخي الثقيل والتباعد الكبير في المواقف يجعل من الصعب التفاؤل والتكهن بإمكانية حصول اختراق حقيقي كبير مع التأكيد على أهمية التصريحات الإيجابية في بناء أرضية قد تفتح الباب أمام حوار حقيقي بين الجانبين وخطوات إيجابية تدريجية قد تؤسس بالفعل لصفحة جديدة وإن كان ذلك عبر خطوات صغيرة وتدريجية وبطيئة.
ويعتبر ملف “مذابح الأرمن” من أبرز الخلافات التاريخية العميقة بين البلدين، حيث تطالب أرمينيا باعتبار ما جرى في الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى “إبادة جماعية” واعتراف تركيا بها ودفع تعويضات عن مقتل قرابة 1.5 مليون أرمني، لكن تركيا تعتبر ما جرى في تلك الحقبة “مأساة جماعية للطرفين” وتشير إلى وقوع مذابح من الطرفين وسقوط ضحايا بمئات الآلاف من الجانبين، وتطالب بـ”إبعاد الملف عن التجاذبات السياسية والعمل عليه في إطار المؤرخين” مؤكدة استعدادها “لفتح الأرشيف العثماني بشكل كامل للمؤرخين”، كما تدعو إلى طي صفحة الماضي والعمل على فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين.
وقبل أيام، وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “رسالة سلام إلى الشعب الأرميني”، قائلاً: “سنفتح أبوابنا الموصدة أمام أرمينيا إن اتخذت خطوات إيجابية”، لافتاً إلى أن تركيا يعيش فيها أكثر من 100 ألف مواطن من أصول أرمينية.
من جهته، تحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان عن “بعض الإشارات العامة الإيجابية القادمة من تركيا فيما يتعلق بالسلام الإقليمي”، وقال خلال اجتماع مجلس الوزراء الجمعة: “سنقيّم هذه الإشارات وسنرد عليها بشكل إيجابي”، وفق ما نقلت وكالة تاس الروسية للأنباء.
وتعقيباً على تصريحات باشينيان، أعرب أردوغان عن استعداد بلاده للتطبيع التدريجي مع أرمينيا، في حال “أقدمت حكومتها على انتهاج مواقف واقعية وابتعدت عن كيل الاتهامات الأحادية”، وأضاف: “بدلا من الاتهامات أحادية الجانب يجب أن تسود الأساليب الواقعية الاستشرافية، ويمكننا العمل على تطبيع علاقاتنا تدريجيا مع حكومة أرمينية تبدي استعدادها للتحرك في هذا الاتجاه”، لافتاً إلى أن المنطقة بحاجة إلى مواقف بناءة جديدة.
واعتبر أردوغان أنه “على الرغم من وجود اختلافات في الرأي والتطلعات فإن بذل جهد صادق لتطوير علاقات حسن الجوار على أساس الثقة بما في ذلك احترام وحدة أراضي وسيادة كل طرف سيكون مسار عمل مسؤول”، مشدداً على أنه “ينبغي ألا يكون التاريخ الحديث مصدرا للعداء ويجب اتخاذ خطوات بناءة من أجل السلام الدائم والتعايش”، وتابع: “يجب أن نجعل السلام والاستقرار دائمين، وأن نوفر الظروف للتنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي”.
وعقب نجاح أذربيجان في تحرير إقليم قره باغ وطرد القوات الأرمينية من مناطق واسعة من أراضيها، وعلى الرغم مما أشعلته المعارك من خلافات بين أرمينيا وتركيا، إلا أن ملف احتلال أرمينيا لجزء من الأراضي الأذربيجانية كان أحد أبرز ملفات الخلاف بين البلدين بعد العداء التاريخي بينهما، وكان من شأن انتهاء الحرب وإعلان أذربيجان استعادة أراضيها أن يشكل فرصة للبلدين للتخلص من أحد أبرز نقاط الخلاف والتطلع إلى المستقبل، حيث وجه أردوغان أكثر من دعوة لأرمينيا لتجاوز الخلافات والجلوس إلى طاولة الحوار لفتح صفحة جديدة بين البلدين.
بالمقابل، فإن معارك قره باغ الأخيرة خلفت زلزالاً في التركيبة السياسية الداخلية في أرمينيا ودفعت المستوى السياسي الحاكم للبحث عن اتخاذ خطوات غير تقليدية لرسم مستقبل البلاد وبناء التحالفات بعدما فشلت في الحصول على الدعم المتوقع خلال الحرب التي خسرتها بتكلفة باهظة جداً، الأمر الذي قد يدفع نحو إعادة النظر في جدوى “الحلفاء” التقليديين وإعادة بناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية ودول الجوار ومحاولة التغلب على الصعوبات الاقتصادية من خلال تحسين العلاقات مع دول الجوار وفتح الحدود معها.
وفي هذا الإطار، يظهر الدور الروسي وتأثيره على توجهات أرمينيا خلال المرحلة المقبلة، حيث نجحت موسكو في استغلال الحرب الأخيرة من أجل دفع أرمينيا للتقارب أكثر معها بعدما سعت الأخيرة للابتعاد مؤخراً نحو الغرب، وهو ما عزز من الدور الروسي في السياسة الداخلية لأرمينيا، وبالتالي من المتوقع أن تلعب روسيا دوراً محورياً في أي مساع للتقارب بين تركيا وأرمينيا لما تتمتع به موسكو من علاقات متقدمة مع الجانبين.
كما يدعم التحركات الأخيرة التوجه التركي العام بمحاولة طي الكثير من ملفات الخلاف مع دول المنطقة والعالم، حيث يقود الرئيس التركي حملة دبلوماسية تهدف لإصلاح العلاقات مع الكثير من الدول كما يجري حالياً مع مصر والإمارات والسعودية والاتحاد الأوروبي، وفي هذا الإطار يظهر مدى استعداد أنقرة حتى لتقديم تنازلات في سبيل فتح ثغرة في جدار العلاقات المقطوعة والحدود المغلقة بين البلدين، حيث من شأن أي حوار تركي أرميني أن يرسل رسائل إيجابية إلى الاتحاد الأوروبي والعالم حتى وإن لم يصل الجانبان إلى نتائج كبيرة.
وعلى الرغم من الملفات التاريخية الثقيلة والخلافات المتشعبة، إلا أنه من المتوقع أن تلعب الدوافع الاقتصادية دوراً مهماً في أي مساع لتطبيع العلاقات حيث شكل الاقتصاد المتداعي عالمياً عقب جائحة كورونا دافعاً للكثير من الدول لتحييد خلافاتها بدوافع اقتصادية، يضاف إلى ذلك رغبة أرمينيا من الخروج من سياسة الانغلاق والاعتماد على الحلفاء -الذين ترى أنهم خذلوها في حرب قره باغ- ورغبة أنقرة الجامحة في تقليل خلافاتها وبشكل خاص مع دول الجوار.