أعتقد أنه بات حتمياً دراسة ظاهرة انتفاضة طلاب الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الجامعات الغربية، في الوقت الذي يسود فيه الصمت جامعات الدول العربية من المحيط إلى الخليج، رغم أن القضية ذات الصلة، تتعلق بفلسطين وحرب الإبادة في غزة، قضية عربية أولاً وأخيراً، حتى إن كان العامل الإنساني أو المرتبط بالقانون الدولي هو مبرر الحراك هناك، وإن كان هذا العامل مازال غائباً عن حياتنا العربية.
الملاحظ أن الطلاب في الجامعات الأمريكية، إما خليط من دول عديدة في أنحاء العالم بمن فيهم العرب، أو حتى أمريكيون من أصول متعددة بمن فيهم العرب أيضاً، وهو ما يمنح القضية زخماً شديداً، ما يشير في الوقت نفسه إلى أن الطلاب العرب يمكنهم التفاعل، بل التأثير خارج جغرافيا أوطانهم، نتيجة عوامل كثيرة يجب التوقف أمامها، الأمر الذي أصبح حديث الشارع العربي الآن، الذي يعترف بالتقصير والتخاذل، بعد أن كان الأمر قاصراً على تخاذل المستويات الرسمية فقط.
قد تكون الأنظمة الرسمية تخلت بالفعل، على أرض الواقع، عن القضية الفلسطينية، التي كانت تعرف في السابق، بقضية العرب الأولى، أو الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن الشارع العربي لم تسجل عليه في أي مرحلة من المراحل، الاستكانة تجاه هذه القضية، ذلك أن الطفل نشأ على الأناشيد الوطنية التي تتغنى بفلسطين والقدس، كما شبّ على خطب المنابر التي تحض على الجهاد والنضال من أجل تحرير الأقصى، وشاهد الكثير من الأعمال الدرامية التي تشرح وتوضح حقيقة القضية الأكثر ظلماً في التاريخ المعاصر. ما الذي حدث للشارع العربي، وما الذي حدث للجامعات العربية، هذا هو السؤال المطروح بقوة، مع الوضع في الاعتبار أن الجامعات الغربية، خصوصاً الأمريكية منها، كشفت عن حدة الأزمة العربية شعبياً ورسمياً، وبعثت بعدد كبير من الرسائل لجامعاتنا وطلابنا، كما أوضحت عدداً من الحقائق أيضاً يتلخص أهمها في النقاط التالية:
أولاً: من الواضح أن الفارق كبير بين مضمون التعليم في العالم العربي القائم، من خلال المناهج الدراسية، على تأليه الحاكم، وتمجيد النظام السياسي، والتغني بإنجازات وهمية، وتعليم آخر في الغرب يقوم على معاني الاستقلالية وإرساء مبادئ الحرية والكرامة والأخلاق، وغيرها من صفات تصنع شخصية قيادية واعية.
سنظل نؤكد أن عدالة قضيتنا هي المحرك الرئيسي لكل أصحاب الضمائر الحية في العالم، ما يعني أننا أمام انتصار لا ريب فيه، مهما طال الزمن، أو مهما تأخر حدوثه
ثانياً: رغم أن الخوف يلعب في هذه المرحلة، دوراً كبيراً في حياة الشخصية العربية بشكل عام، نتيجة سياسات البطش والتنكيل والاعتقال، وغير ذلك من تجاوزات، إلا أنه لم يمنع الشخصية الغربية أو الأمريكية من القيام بدورها، في ضوء ما شاهدناه هناك من تجاوزات واعتقالات في صفوف الطلاب، نتيجة الثقة في القضاء في نهاية الأمر، وعدم تجاوز القانون، وهو ما نفتقده في عالمنا العربي.
ثالثاً: بوجود الآلاف من القيادات السياسية العربية بالسجون والمعتقلات، وفي بعض الدول عشرات الآلاف، من بينهم آلاف الطلاب بمختلف المراحل التعليمية، تفتقد دور التعليم المختلفة حالياً، القيادات الفاعلة التي يمكن أن تقود المشهد، بالدعوة إلى الاحتجاج أو التظاهر أو أي شي من هذا القبيل، كما هو حال الشارع عموماً، وكما هو حال هذا النوع من العمل الثوري.
رابعاً: رغم ذلك فإنه يجب عدم التهوين من رسالة الجامعات الأمريكية إلى الجامعات العربية عموماً، التي أصبح طلابها يعيشون حالة من الانكسار والإحساس بالدونية، نتيجة عدم استطاعتهم التعبير عن آرائهم ولو شفاهة تجاه أي قضية، محلية أو خارجية، نتيجة الخوف والرعب من ردود الفعل المنتظرة أمنياً، وهي الحالة التي يمكن أن تنفجر بين عشية وضحاها.
خامساً: في الحالة العربية يجب الأخذ في الاعتبار ما كان سائداً في الماضي، من منافسة شديدة في الأوساط الجامعية بين اليمين، ممثلاً في شباب التيار الإسلامي بشكل خاص، وهم الآن إما في السجون أو في الشتات، وجماعات اليسار عموماً، الذين تقلصت أعدادهم بشكل كبير، خصوصاً في الأوساط الطلابية والعمالية، وإن كانوا يوجدون في الشارع العام، من خلال مجموعات صغيرة طاعنة في السن، أصبحت تجد صعوبة في صنع أجيال جديدة، نتيجة عوامل مختلفة.
سادساً: لأن الطلاب في نهاية الأمر جزء من المجتمع، فهم نتيجة طبيعية للحراك السياسي والبرلماني الحاصل في هذا المجتمع، ولأن العملية السياسية في البلدان العربية الآن، بأحزابها وصحفها وبرلماناتها وسياسييها، دخلت ما يمكن أن يطلق عليه «بيت الطاعة» فمن الطبيعي أن تتوارى الحركة الطلابية تماماً عن المشهد، نتيجة طبيعية لما يجري على أرض الواقع.
سابعاً: أوضح الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية بشكل خاص، مدى النقاء الذي يتميز به الطلاب في هذه المراحل العمرية المتقدمة، مقارنة بنواب الكونغرس بشقيه (النواب والشيوخ) وأيضاً حزبيه (الجمهوريين والديمقراطيين) الذين تلوثوا في معظمهم سياسياً وأخلاقياً، فأصبحوا خاضعين لضغوط اللوبي اليهودي هناك، سياسياً واقتصادياً، لا يستطيعون إنصاف الحق، أو مجرد النطق به.
يجب أن نضع في الاعتبار أن الموقف الطلابي في الجامعات الأمريكية، ستكون له تبعاته، كامتداد استراتيجي لطوفان الأقصى، وقد شاهدنا نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني يهاجم التحركات الطلابية بشدة، مطالباً بالتصدي لها، رغم أنها شأن داخلي لدولة أخرى، لأنه يدرك خطورة هذا التطور، الذي يتدحرج بقوة ككرة الثلج، بعد أن تفجر في جامعة كولومبيا، بفعل غباء رئيسة الجامعة هناك، مينوش شفيق، التي استدعت الشرطة لفض احتجاجات الطلاب المتظاهرين. هي بالتأكيد رسالة بالغة الأهمية إلى جامعاتنا وطلابنا، تحمل من الدلالات الكثير، ومن أهمها أن الطلاب هم وقود المجتمعات ومستقبلها في الوقت نفسه، ولا يجب بأي شكل من الأشكال، وهم في مقتبل العمر، أن ينشأوا على الخوف والجبن، في الوقت الذي يتصدر فيه الفاسدون من بني جلدتهم المشهد، لا يستنكرون حتى ارتكاب مجازر جماعية هنا، أو حروب إبادة هناك، من أجل تحقيق مكاسب شخصية، أو حتى مكاسب سياسية آنية. وإذا كانت هناك حتى كتابة هذه السطور نحو 40 جامعة في أنحاء الولايات المتحدة، تشارك في هذه الاحتجاجات، إضافة إلى عدد آخر من الكليات والمعاهد، التي يصل عددها إلى نحو 20، فمن المتوقع أن تتزايد وتتفاقم هذه الحالة، مع تفاقم ممارسات الاحتلال بارتكاب مزيد من المجازر اليومية، بحق المدنيين الأبرياء في قطاع غزة والضفة الغربية، على حد سواء، ما يضع الشارع العربي بشكل عام أمام مسؤولياته، ليس ما يتعلق منه بالجامعات فقط، إنما بالقوى السياسية والحزبية بالدرجة الأولى، ناهيك عن البرلمانات ومنظمات المجتمع المدني، أياً كانت ردود فعل الأنظمة، التي حملت على عاتقها إما تغييب الشارع، وإما تخويفه، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.
وفي كل الأحوال، سنظل نؤكد أن عدالة قضيتنا هي المحرك الرئيسي لكل أصحاب الضمائر الحية في العالم، ما يعني أننا أمام انتصار لا ريب فيه، مهما طال الزمن، أو مهما تأخر حدوثه، وإذا كنا نشيّع من الشهداء الكثير على مدار الساعة، فيجب أن نضع في الاعتبار أن معارك التحرير الوطني على مدار التاريخ كانت لها أثمان باهظة، فما بالنا حينما نتحدث عن فلسطين القدس الأقصى.
وأذكر هنا تعبير تلك السيدة الفلسطينية التي استشهد أبناؤها فقالت دون تردد: (فلسطين مهرها غالٍ)، وها هو المهر الفلسطيني يساهم فيه الآن كل أحرار العالم من أقصاه إلى أقصاه، تحت شعار (فلسطين حرة) الذي أصبح يتردد بكل اللغات، وعلى كل الألسنة، ومن مختلف الأعمار، وهي الرسالة التي سوف يستوعبها العرب، شعبياً ورسمياً، شاؤوا أم أبوا، بعد أن ينفضوا غبار الخوف والعار معاً.
كاتب مصري