ليس “جاسوس خصوصي”، عنوان الكتاب الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية، ضمن منشورات فايكنغ في لندن؛ هو الأوّل الذي يضمّ رسائل الروائي البريطاني جون لوكاريه (1931 ـ 2020)، الاسم المستعار الذي استقرّ عليه دافيد جون مور كورنويل حين شرع في تأليف ونشر روايات التجسس الأكثر مبيعاً. غير أنّ هذه الحزمة الجديدة من الرسائل تتميز بأنها، أوّلاً، ظهرت إلى العلن بإشراف وتحرير وتقديم تيم كورنويل، أحد أبناء لوكاريه؛ وأنها، تالياً واستطراداً، تكشف من الخصوصيات والجوانب الحميمية ما يفوق تلك التي عكستها رسائل أدرجها آدم سيسمان في كتابه “جون لوكاريه: السيرة”، 2015؛ أو أخرى ألمحت إليها سوليكا داوسن، إحدى عشيقات لوكاريه، في مذكراتها “القلب السرّي”، 2022.
الرسائل التي يضمها كتاب “جاسوس خصوصي” مرسلة إلى زملاء جواسيس، وكتّاب، وممثلين، وساسة، وناشرين، وصحافيين؛ وهي تفصح عن مقادير وفيرة، ومفاجئة في نماذج غير قليلة، من مسارات حياة طافحة بالوقائع والتقلبات والتحوّلات، لكاتب فريد المخيّلة ورفيع الخصال السردية، جمع بنجاح فائق بين الحبكات الأشدّ إحكاماً وإثارة حول الجاسوسية والجواسيس، وبين امتهان الجاسوسية على صعيد عملي خاصة خلال عقود الحرب الباردة. وفي العديد من الرسائل لا يعدم القارئ تلك اللمسات الإنسانية، العاطفية أو الرومانسية أو الحسّية؛ كما في الإشارات إلى جانيت لي ستيفنز، الصحافية والناشطة الحقوقية الأمريكية التي عاشت في بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية وغطّت مجازر صبرا وشاتيلا، وقُتلت في تفجير السفارة الأمريكية سنة 1983 أثناء تواجدها هناك لأداء خدمات بحثية كان لوكاريه يحتاجها لاستكمال روايته “قارعة الطبل الصغيرة”، التي تتناول الاستخبارات الإسرائيلية.
كذلك لا تفتقر حزمة الرسائل الجديدة إلى إضاءات، ليست أقلّ إدهاشاً، حول مواقف سياسية أو حتى جيو- سياسية، وآراء شبه فكرية وإيديولوجية، كما في نقد السياسات الأمريكية بصفة خاصة، ونزوع الغرب إلى استبدال الحرب الباردة بأخرى ضدّ الإسلام والمسلمين، أو تفضيح الحياة الحزبية البريطانية حين تُوضع مارغريت ثاتشر على مبضع التشريح ذاته الذي يتواجد فيه توني بلير؛ فضلاً عن العودة إلى لقاء لوكاريه الشهير مع ياسر عرفات في بيروت، سنة 1982، حين دار المشهد الشهير، كما وصفه لوكاريه نفسه:
ــ عرفات: لماذا أتيت لرؤيتي يا سيد دافيد (و”الختيار” هنا استخدم اسم لوكاريه الأصلي)؟
ــ لوكاريه: أتيت يا سيادة الرئيس لأضع يدي على القلب الفلسطيني.
ــ عرفات (بعد أن أمسك بيد لوكاريه وضغطها على قلبه): يا سيد دافيد، إنه هنا! إنه هنا!
كذلك لا تغيب عن الرسائل أصداء المعركة، الشرسة والمشهودة، بين لوكاريه وسلمان رشدي، سنة 1979؛ حين نشر الأوّل رسالة في الـ”غارديان” البريطانية يشتكي فيها من تهمة العداء للسامية التي جرى إلصاقها به بعد صدور روايته “خيّاط بناما”، وفوجئ برسالة مضادة من الثاني يعيّره فيها بموقفه الرخو من فتوى الإمام الخميني بصدد رواية “الآيات الشيطانية”. المحتوى المعلن لذلك السجال انطلق من مبدأ مشترك هو الدفاع عن حرّية الكاتب وحرّية التعبير ضدّ منتهكي هاتين الحريتين؛ سواء أكانوا من آيات الله والملالي في حالة سلمان رشدي، أو كانوا من ناصبي الفزّاعات الفكرية وصائدي السَحَرة في حالة لوكاريه. أمّا المحتوى الخفيّ للسجال فقد كشف عنه النقاب محرّرو الـ”غارديان” أنفسهم، حين أعلنوا أنّ حكاية الحرّية تلك ليست سوى الستار، وأنّ بواعث الغيرة والحسد والثأر الشخصي بين لوكاريه ورشدي هي التي حكمت “اللعبة” منذ البداية: عام 1989 حين أبى الأوّل المصادقة على “البراءة الناصعة” للثاني، فثأر رشدي وكتب مراجعة شديدة القسوة لرواية لوكاريه “البيت الروسي”.
“أنت جاهل أمّي، وحمار مغرور، وحليف لأعداء الحرية”، كتب رشدي؛ «عار عليك! أنت ممجّد لذاتك، ومتغطرس، واستعماري”، كتب لوكاريه يردّ؛ والـ”غارديان” نقلت التراشق اللفظي الشنيع هذا من صفحة الرسائل إلى صفحات الرأي والثقافة، واختارت له تسمية “المراسلات الشيطانية”. ولسوف تُنتظر 15 سنة قبل أن يتصالح الكاتبان، ويجنح كلّ منهما إلى امتداح الآخر. الفارق، مع ذلك، ظلّ ماثلاً لدى لوكاريه أكثر من رشدي، لأنه واصل التمسك بتساؤله القديم: إذا كان يحقّ لنا أن نسخر من القرآن، فهل نعجب حين ينتقض المسلمون المؤمنون دفاعاً عن كتابهم المقدس؟ وبصرف النظر عن صياغة لوكاريه المدرسية لمسألة بالغة التعقيد، فإنّ عشرات الصياغات الأخرى التي تكشفها رسائله في الكتاب الجديد تفضي عملياً إلى تعميق التأمّل في أسئلته أكثر من ابتسارها وتبسيطها.
ويبقى أنّ رواية التجسس كما اقترحها لوكاريه أرست سلسلة طرائق سردية وأسلوبية تبدأ من نزع الصفة الرومانسية عن الشخصيات، وتنأى عن تجريد الجاسوس من الخصال البشرية؛ وتلك ملامح تجلّت في شخصية جورج سمايلي الشهيرة، ابتداء من رواية “الجاسوس الآتي من البرد” التي سوف تصبح أيقونة أعمال لوكاريه. ومعروف أنّ كيم فيلبي، البريطاني الذي عمل جاسوساً للسوفييت، هو الذي كشف شخصية لوكاريه الجاسوس، مما دفع الأخير إلى الاستقالة من المهنة الفعلية والذهاب إلى الرواية.
ولعلها محاسن صدفٍ تلك التي جعلت مؤلف “سمكري، خياط، جندي، جاسوس” أكثر بكثير من مجرّد… جاسوس خصوصي!