أصبح من المتداول في مختلف نشرات الأخبار مرور قصاصة أخبار على الأقل عن الصين، وقد لاحظنا بشكل واضح خلال الفترة الأخيرة، تحول وجهة العالم نحو الصين، خاصة رموز الحضارة الغربية الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. هذا التحول في الوزن الاستراتيجي للصين يدفعني إلى دعوة شعوب العالم العربي، التي تعيش أزهى عصور الانحطاط والنكوص والوهن والعلل المتشعبة الأبعاد، لأن تنظر بعين الاعتبار إلى التجربة الصينية، لعلها تدرك أن التخلف ليس قدرا حتميا بقدر ما هو تخلف في الإرادة والقيادة .
لقد انتقلت الصين من ‘حالة فقر الدم’، الذي عانت منه مع نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين، حيث تدهور مستوى الإنتاج والسكان وانكسر نسيج التقدم العلمي، وانتشر الفكر الأصولي. لكن مع نهاية الربع الأخير من القرن الماضي دخلت ‘مرحلة الانطلاقة الكبرى’، حيث تم تحديث البنية الاقتصادية والعلمية والثقافية للمجتمع الصيني.
إن هذا التحول السريع لم يكن ليتحقق لو لم تتوفر شروط موضوعية ساعدت على تحققه، فحالة النكوص والتدهور التي شهدتها الصين خلال القرن 19 وطيلة النصف الثاني من القرن 20، لا يمكن أن تخفي حقيقة أن الصين حضارة عريقة، تمتلك مقومات مادية ومعنوية تؤهلها لاحتلال مكانة سامقة بين الأمم العظمى. وأن حالة التخلف والانحطاط لم تكن إلا طفرة ظرفية في مسار تطور الحضارة الصينية، فإذا ماحللنا الوزن الجيوسياسي للصين في مرحلة ما قبل إصلاحات 1978، سنجد أن الصين كان لها حضور قوي على خريطة العالم. ويظهر ذلك من خلال المؤشرات التالية، فعلى المستوى الاقتصادي بلغت حصة الصين من الناتج الداخلي الإجمالي للعالم سنة 1820 حوالي 32.9′ ، وهو ما مكنها من احتلال المرتبة الأولى عالميا على مستوى GDP وفي سنة 1890 مثلت الحصة حوالي 13.2′ وهو ما مكنها من احتلال المرتبة الثانية عالميا، بينما لم تتعد هذه الحصة 4.6 ‘ سنة 1952، 4.9’ سنة 1978، وهو ما جعلها تحتل المرتبة الثالثة والرابعة على التوالي. على المستوى الديموغرافي مثل ساكنة الصين حوالي 36.6 ‘ من ساكنة العالم سنة 1820، وحوالي 26.2′ سنة 1890 ونحو 22.3’ سنة 1978.
إن الحضارة الصينية في القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن 15 ‘كانت أكفأ بكثير من الحضارة الغربية في تسخير المعرفة العلمية، خاصة من الناحية التطبيقية التكنولوجية. ولما كان العلم في جوهره هو معرفة منظمة ونظرية حول تكوين العالم وكيفية عمله، وليس كيفية تسهيل العمل أو السيطرة على الطبيعة، فإن الصين عجزت عن مواكبة الثورة العلمية التي فجرها العلم الحديث، والتي تبلورت من خلال علوم الفلك، الفيزياء، البصريات والرياضيات، وهي علوم لم تتطور عند الصينيين نتيجة لانعدام الحرية الفكرية لطلب العلم .لذلك، فان الصينيين تأخروا لا عن الغرب فقط، بل عن العرب منذ حوالي القرن الحادي عشر، وبرزت هذه الفجوة المعرفية أكثر مع احتكاك الصينيين بالعالم الغربي الذي دق أبواب الصين بمدافعه وفتوحاته العلمية بدءا من القرن 18. وهو ما جعل الزعماء الصينيين المعاصرين بدءا من ثورة 1911 إلى حدود انطلاق إصلاحات 1978، يدركون أن تخلف الصين وهزائمها المتوالية، ليس نتاجا لتخلف الوسائل والهيكل التنظيمي والاجتماعي فحسب، بل هو أيضا نتاج لنقائص تعتري التكوين العميق للثقافة التقليدية. وخلال هذه المرحلة رفع مجموعة من المفكرين راية معارضة التقاليد، وشنوا هجوما على أفكار المذهب الكونفوشي الذي كان أساس الثقافة التقليدية.
فحركة ‘4 مايو’ التي اندلعت عام 1919، كانت نقطة تحول فكري وسيكولوجي عميق مست الطبيعة الحياتية والفكرية والشخصية للأمة الصينية، فالتحديات التي ولدها القرن العشرين، غيرت بنية المجتمع الصيني، وأهلته لقبول عملية التحديث، فانهار نتيجة لذلك صرح النظام القديم، لكن النظام الجديد لم يستقر إلا بعد حرب طاحنة، من جهة ضد المحتل الأجنبي، ومن جهة ثانية بين القوى السياسية الصاعدة التي تأثرت بدورها بالتباين الأيديولوجي. فكانت الغلبة للنظام الشيوعي الذي تمكن من دحر الاحتلال وتوحيد البلاد، وتغيير البنية السياسية والاجتماعية للمجتمع الصيني. كما تمكن من نقل المجتمع الصيني من حالة التفكك إلى الوحدة، ومن مجتمع المزارعين إلى مجتمع العمال، ومن الجهل إلى العلم، ومن الاقتصاد المنهار إلى الاقتصاد النامي. وهو ما أسهم في تأهيل المجتمع الصيني للقبول بإصلاحات 1978، هذه الإصلاحات هي التي أطلقت العنان لصعود الصين اقتصاديا وسياسيا وحضاريا .
إن ابرز ما في التجربة الصينية هو أن دورة الحضارة تتغير صعودا ونزولا. فالأمة التي كانت قوية ومسيطرة في الماضي، سرعان ما تتحول إلى امة ضعيفة مهانة. وهو الدرس الذي كشف نواميسه ‘ابن خلدون’ في ما سماه بـ’دورة العمران’. فصعود الصين ومعها العديد من البلدان الآسيوية، يحيل الى أن دورة الحضارة أصبحت عجلتها تتجه بثبات نحو الشرق. وهو ما يعني أن المهمشين يمكن أن ينقلبوا إلى ممثلين أساسيين، فوق خشبة مسرح الأحداث الاقتصادية ولاجتماعية والسياسة للعالم، إذا ما توفرت الإرادة السياسية الواضحة الملامح.
فالهزائم من الممكن أن تتحول إلى انتصارات، إذا ما تم تشخيص مكامن الضعف والخلل التي أفضت للهزيمة، والحرص على تحديد الأهداف بدقة، لاسيما ان الذات الإنسانية تتجه في لحظة الهزيمة والانكسار، إلى محاسبة الذات بتجرد تام عن كل شعور بالمركزية أو التفوق الحضاري.
هذه بخلاصة رسالة الصين إلى العالم العربي الذي استوطنه اليأس والعجز.
‘ اكاديمي واعلامي مغربي