التوحيش في العشر الأواخر من رمضان المبارك إيذان بانتهائه ورحيله، «لا أوحش الله منك، أي لا أذهبك الله فتوحش أحباءَك بالفراق».
والتوحيش في معظم أنحاء فلسطين والوطن العربي يحمل الكلمات نفسها مع تعديلات طفيفة واجتهادات محلية هنا أو هناك، كذلك قد يختلف الإيقاع في سرعة أداء هذه التواشيح بين منطقة وأخرى.
في بعض البلدان يكون الإيقاع بطيئاً منسجماً مع مشاعر الفراق، ويشعرك بالحزن حتى انهمار الدموع، وفي بلدان أخرى يكون الإيقاع سريعاً مناقضاً لمشاعر الحزن، وكأن لسان حالهم يقول: «فُراقه عيد».
لا أوحش الله منك يا شهر الصيام، لا أوحش الله منك يا شهر القيام، لا أوحش الله منك يا شهر الإحسان، لا أوحش الله منك يا شهر الغفران، لا أوحش الله منك يا شهر التراويح، لا أوحش الله منك يا شهر التسابيح، ساعدوني يا رفاقي بالدموع… واسألوا الله قبولاً في الختام.
في اليوم الثلاثين من رمضان، نستعدُّ لمفارقة رمضان، لنستقبل عيداً من أسوأ الأعياد التى مرّت على شعبنا كلّه، وخصوصاً على أهالي القطاع، لا شك أن مئات ملايين من العرب حزينون لحزن غزّة، وأعتقد أنّه ليس العرب فقط، فهنالك شعوب أخرى في كل جهات الأرض تشعر بألمنا، بتفاوت بين مكان وآخر، رغم أن البعض ما زال يضمر كراهية لنا وللعرب وللمسلمين عموماً، رغم كل ما حلّ بنا وما زال مستمراً، وذلك بسبب تراكمات من غسيل الدماغ، بثّتها وما زالت تبثها جهات معادية.
في مثل هذه الأيام، كنت أنا وجميع الأمهات مثلي، نتابع صفحات ملابس بيع الأونلاين التى تَعرض ملابس العيد، وكنا نوصي على الموديل الذي يُعجبنا ونتشاور فيما بيننا أيّها أجمل، وتفرحُ لينا ابنتي الصغرى ابنة السنوات السّبع الآن، «قريدة العش» بنتيجة الاختيار، ثم ننتظر وصول المرسال (الديلفري) على أحرّ من الجمر، لينا تقف على الشُّرفة حتى يصل، فتنزل إلى الشّارع لاستقبال المرسال وفستان العيد للاحتفاء به.
كنا ننزل إلى السّوق لاستكمال بقية المُشتريات، من سوار وربطة شَعر، أو ساعة لطيفة تناسب لون الفستان.
وفي حال أننا لم نجد ما يعجبنا من عروض على صفحات الإنترنت، ننزل إلى مدينة غزّة المليئة بمحلات الألبسة، لنبحث عن فساتين جميلة وبأسعار مناسبة، وهذا يتطلّب منا جهداً كبيراً، خصوصاً أننا ننزل في وسط أو أوّل النهار، ونسابق السّاعة لأننا صائمون، ونريد العودة إلى منازلنا مبكّراً، لتبقى لدينا مساحة من الوقت لإعداد وجبة الإفطار التي ستليها تكبيرات العيد التي كانت تنطلق بالبهجة من مئات المساجد، بعد صيام الشّهر.
يكون الازدحام شديداً جداً، هكذا كان حال الشّوارع في كلّ مدن قطاع غزة، الجميع يعرض بضاعته، الملابس، أنواع الحُلقوم والشوكولاتة والملبّس، ألعاب الأطفال.
طريقة عرض المنتجات لافتة ومغرية، ولهذا كنتُ أنصح بعدم اصطحاب الأطفال، لأنّهم سوف يفرغون الجيوب من النُّقود لكثرة طلباتهم، وكان أصعب شعور حينما يرى الأطفال الأشياء المعروضة ويشتهونها دون أن يستطيع ذووهم تلبية رغباتهم، وعادة ما يَعدُ الأهل بشرائها في عيد الأضحى لإسكاتهم، وهذا لا ينجح دائماً، فبعض الأطفال يشعر أنّها خدعة، والبعض لا يستطيع صبراً حتى العيد القادم، فينفجر غاضباً.
هذا العيد مختلفٌ تماماً، فلا وجود لصفحات إنترنت تعرض الملابس، ولا وجود لمحلات أصلاً لعرض الملابس في الواقع، لا وجود للفرح والبهجة أساساً في نفوسنا، رغم محاولات بعض النشطاء إدخال شيء من البهجة إلى قلوب الأطفال في مراكز الإيواء وفي المخيّمات المنتشرة في كل مكان.
كانت المحلات التجارية في مثل هذا الموسم تستورد كمِّيات هائلة من تركيا والصّين بمناسبة العيد.
لم تعد محلات قائمة، وأكثر أصحابها باتوا مجهولي المصير، ربما استشهد بعضهم، وربما نسّق البعض وغادرالقطاع إلى مصر ممن يملكون قدرات مالية، وربما أسر بعضهم، أم أنّ البعض في الخيام أو مراكز في الإيواء، وربما ما زال البعض في بيوتهم ينتظرون الفَرج.
حالياً نجد على البسطات الارتجالية بعض ما تبقى من الملابس المتواضعة جداً، والتي لا تناسب العيد على الإطلاق، وبأسعار خياليّة لا تتناسب مع جمال القطعة المعروضة ونوعيّتها، ولا مع القدرات الماليّة للناس، وهي التي كنت أعزف عن شرائها في الأيام العادية.
تفقّدَت طفلتي جميع فساتينها التي اشتريناها في مناسبات سابقة، عموماً نشتري ملابس متواضعة وعملية، إلا في العيدين، أو لمناسبة حفل زفاف لقريبٍ.
كلّما كبرت لينا قليلاً، أوزّع ملابسها التي ضاقت على جسدها للأقرباء.
جمعت لينا كل فساتينها القديمة التي ضاقت، كي تقدّمها إلى رهف ابنة شقيقتي النازحة من الشّمال التي نستضيفها، وشقيقتي هذه تقسم وقتها بين إقامة عندنا في شقتنا وبين الخيمة التي أقامها زوجها مع ذويه على شاطئ البحر، بضعة أيام عندي ويوماً أو اثنين عند زوجها، ريثما تعود إلى الشّمال.
عندما توفّر الاتصال بصعوبة بالغة، تواصلت شقيقتي مع من بقوا في الشّمال وطلبت أن يصوّروا لها منزلها، ما زال قائماً نسبياً، ولكن جدرانه مهدّمة، ومحتوياته محطّمة تماماً، سرير رهف وخزانتها وملابسها كلها حطام، بكت رهف كثيراً، وعاتبتُ أمّها، «كان الأجدر بِك أن تخفي عنها صور غرفتها المحطمة».
حزنت صغيرتي وبكت، ووعدتُها بأن أشتري لها أجمل فستان بأي سعر كان في عيد الأضحى، كانت محاولة مني لإرضائها وإسكاتها، ولم أفلح، فقد بكت ثم استسلمت بغير رضا.
الحزن في كل بيت في غزة، بعض البيوت فقد شهيداً أو أكثر، طبيب العائلة فقد كل أسرته، زوجته وأولاده وبيته، وبات وحيداً يعيش ويعمل وينام في عيادته.
من لم يفقد من الأسرة فقد من الأقارب أو من الجيران أو المعارف، إضافة إلى آلاف المفقودين والأسرى والبيوت المدمّرة، وفوق كلِّ هذا، المصير المجهول، والسؤال المحيّر، متى تنتهي هذه الحرب! وما هي أخبار المفاوضات! وهل هي جدّية أم أنّها لتمضية المزيد من الأيام، والمزيد من المذابح التي باتت روتيناً يومياً، والغارات التي لا تتوقّف، وصوت الزّنانة الذي تحوّل إلى أداة تعذيب ساديّة لكل سكان القطاع.
كنت معتادة أن أقتني في أوّل رمضان سمك (الجَرِعْ) وأنظّفه وأعبّئه بالملح لعمل الفِسيخ، وهو من طقوس العيد في قطاع غزة، كنت لا أثق بفسيخ المحلات التجارية، لهذا كنت أصنّعه بيدي، وأمام عينيّ في البيت، كان الكيلو منه باثني عشر شيكلاً قبل تصنيعه، ويباع كفسيخ بحوالي خمسة وثلاثين شيكلاً. في الحرب وصل سعره إلى مئة وخمسين شيكلاً، لن أشتريه على الإطلاق بهذا الثمن.
اشتريت سِلقاً وعملت السُّماقية الغزاوية، وهي أكلة مشهورة تدخل ضمن طقوس استقبال عيد الفطر بشكل خاص، وهي من السّماق والبصل والسّلق والحمص والثوم والطحينة والفلفل وزيت الزيتون والدقيق، واللحم «لمن استطاع إليه سبيلاً» ووزعت منها على الجيران.