عزيزي ادوارد
ابدأ من الآخر كما نقول، فأنا اعلم انك لا تحب المقدمات، كما أنك مستعجل دائما، لذا لنذهب الى الموضوع بشكل مباشر، على الرغم من ان الموضوع محيّر وغامض. اريد ان اعترف ان الحوار معك تعترضه مشكلة كبرى. فأنا أعرف ان الأموات يستطيعون مخاطبتنا، لكننا لا نعرف كيف يستطيع الأحياء التحاور مع الموتى. اقول لك ان هذه المسألة تؤرقني بعمق منذ غياب ثلاثة اصدقاء. انت متّ عام 2003، سمير قصير اغتيل عام 2005، ومحمود درويش غاب عام 2008. لم اكن اعتقد قبل ذلك ان للموت طعم الجريمة، كما كنب المتنبي:
‘اذا تأملتَ الزمانَ وصرفَه تيقنتَ ان الموتَ ضربٌ من القتلِ
غيابكم تجسد في روحي مرارة نابعة من شعوري بأن هناك نوعا من اللاعدالة في افتراض الموت بوصفه ضرورة وعدلا.
اغتيال سمير قصير كان اشارة الى الثمن الدموي لوعود الربيع العربي التي لم تتحقق، لكن انت ومحمود غيبكما موت طبيعي، (لست متأكدا من اننا نستطيع ان نطلق صفة ‘طبيعي’ على شيء لا يصدق لكنه مصير كل حي). ورغم ذلك، اريد ان اعترف اليوم، ونحن نستذكر الذكرى العاشرة لغيابك ان غيابكم انتم الثلاثة شكل اسى دائما بالنسبة لي. سمير هو اخي الصغير، ومحمود هو شاعري الشخصي، وانت هو مثقفي وبطلي.
اعتقدت دائما، وهذا ما ناقشته معك في احدى لقاءاتنا النيويوركية، ان الأدب هو المكان الوحيد الذي يستطيع الأحياء والأموات التواصل من خلاله. لذا هناك نوع من التناقض العميق بين الأدب والدين. هذا التناقض عبر عن نفسه بشكل واضح في الشعر العربي الكلاسيكي.
موضوعي اليوم ليس هذا التناقض، الذي يتخذ، كما نلاحظ، ابعادا جديدة في حياتنا العربية، موضوعي هو الحقل المشترك حيث يستطيع الأحياء والموتى التواصل والحوار من خلاله.
من الواضح ان الموتى يستطيعون مخاطبتنا متى نشاء، عندما اشتاق اليك اذهب الى احد كتبك واشعر كيف لا يزال حضورك حاضرا، وكيف تخاطبنا كلماتك وتفتح امامنا الطريق الى العقلانية والفكر النقدي.
اشعر في هذه اللحظات انك الغائب-الحاضر. اعتقد الاسرائيليون ان ذكاءهم الكولونيالي قادهم الى صك عبارة الغائب-الحاضر، كي يسموا بها الفلسطينيين الذين حولوهم الى غرباء في وطنهم. لكنهم لم يفهموا ان هذه التسمية سوف تجعل من الفلسطينيين يهود اليهود، حيث تتحول انت ايها المثقف الفلسطيني الى ‘المثقف اليهودي الأخير’، بحسب تعبيرك، وتصير ايضا احد المنظرين الرئيسيين للمنفى.
كيف اخاطبك واستمع الى ملاحظاتك؟
لن اجد جوابا على هذا السؤال الا اذا افترضت ان موتك هو استعارة للحياة. وبهذا المعنى اريد ان اناقش معك مسألتين مرتبطتين بنظريتك حول المنفى وصور المثقف.
المسألتان متداخلتان في تطور نظريتك، فأنت اعطيت المنفى مكانة خاصة في الحياة الثقافية، وجعلت من مثقفين منفيين هما ادورنو وفيورباخ نموذجا.
تحليلك للمنفى جعل منك الصوت الجديد للمنفى الوجودي، وبحسب المؤرخ الاسرائيلي امنون راز كراكوتسين فان المثقفين الفلسطينيين صاروا ورثاء فكرة المنفى، بعدما قامت المؤسسة الاسرائيلية بتدمير مفهوم ‘الغالوت’ او المنفى في الثقافة اليهودية.
سؤالي هو عن نوع جديد من المنفى يسود اليوم في العالم العربي، ويحتاج الى نقاش جديد، افتراضي هو ان مثقف المشرق العربي صار منفيا في وطنه.
كيف اجروء على قول هذا وسط الربيع العربي، وبعد اسقاط النظامين الاستبداديين في مصر وتونس؟
انها مفارقة اليس كذلك؟ ولكن هذا هو شعورنا اليوم ونحن نرى كيف اتخذت العملية الثورية اشكالا عنيفة، خصوصا مع سفك الدماء المستمر في سورية.
هل قَدَرنا ان نختار بين شكلين من الاستبداد: العسكري و الاصولي؟ ام هو خطؤنا نحن؟
اغلب الظن انه خطؤنا، ولكن الاعتراف بالخطأ لا يحل المشكلة. يجب ان يدفعنا هذا الى تحليل بنية حياتنا الثقافية وان نبدأ من نقد التحالف بين العسكريتاريا واجزاء من النخب المثقفة تحت راية مواجهة الاسلاميين. لقد قاد هذا الى عزلة المثقفين العلمانيين الذي انعكس تضاؤلا في حجم تأثيرهم في الانتفاضات العربية.
هذا هو المنفى الجديد الذي نواجه، وانا متأكد من انك تعرف معنى ما اقول. فالشعب الفلسطيني وكتابه ومثقفوه لا يزالون يعيشون هذا المنفى في فلسطين 48، ولقد لعب هذا المنفى الداخلي دورا حاسما في اعادة تشكيل الثقافة الفلسطينية بعد حرب النكبة سنة 1948.
من المؤسف ان نرى ان المنفى الداخلي في بلاد الشام صار هو الشكل الأكبر للمنفى. هنا والآن في بيروت ودمشق والناصرة والقدس يعيش المثقفون منافيهم داخل اوطانهم، وعليهم ان يجدوا طريقا لبناء جسر العبور الى الحرية والتحرير.
مثقفك يا صديقي كان مزيجا من مثقف غرامشي العضوي ومثقف جوليان بندا غير المعني بالأهداف العملية. مزجك بين المفهومين رسم الملامح الأولى لمثقف القرن الحادي والعشرين، عبر مواجهة ازمة مثقف ما بعد الحداثة بالتزام شخصي وعام، وبرؤية مدهشة لمعنى الدور الأخلاقي للمثقف، الذي يشكل مرآة الضمير الانساني.
سؤالي ايها الصديق العزيز ليس عن المفهوم العام للمثقف كما صغته، والذي يمكن ان يشتمل على تجربة المنفى الداخلي التي حدثتك عنها، لكنه سؤال العلاقة بين ولادة المثقف الجديد وهذا التاريخ العربي الذي يتفتح فينا بالوحل والدم.
كيف نصنع من منفانا الداخلي، طريقا الى افق الكرامة والحرية والتحرير؟
وفي النهاية اود ان اقول لك اننا لم نعد على استعداد لاتباع نصيحتك في ان على المثقف ان يقول الصدق والحقيقة للسلطة. هذا هو الدرس الذي تعلمناه من الرحلة الثقافية الطويلة التي بدأت مع الطهطاوي. الحوار او الكلام مع او الى سلطات استبدادية وطائفية وعنصرية ومافيوية لن يقود الا الى مهانة الثقافة.
لا لغة مشتركة مع هذا النوع من السلطة، ولا نملك شيئا نقوله لها. كي نقول لهم الحقيقة يجب توفر شرعة اخلاقية تشكل ارضية يستند اليها المجتمع المدني، لكن السلطة قامت بتدمير هذه الشرعة بيديها.
كفى، فالسلطة التي دمرت الدولة قبل ان تبدأ الانتفاضة، كما في سورية، والسلطة التي حوّلت اجهزة الدولة الى لعبة في ايدي امراء الحرب الطائفيين، كما في لبنان، والسلطة الكولونيالية التي جعلت من النكبة مسارا مستمرا في ارض فلسطين، او السلطة الفلسطينية الخرساء والتي لا تملك ارادة المقاومة.
لا شيء نقوله لهذه السلطات. لا نملك سوى ان ندير لها ظهورنا ونبدأ مع ‘معذبي الأرض’، ثقافة جديدة في بحثنا عن الحرية.
لا شك انك تتفهم يا صديقي كم نحن في حاجة الى التحدث معك والاستماع الى كلامك وسط بحثنا عن ثقافة التغيير، وكم نحن مشتاقون اليك.
جزء من كلمة القيت في ندوة اقامتها الجامعة الامريكية في بيروت يوم الخميس 10 تشرين الاول/اوكتوبر، في الذكرى العاشرة لغياب ادوار سعيد.
THANK YOU ……..SHUKRAN ……….MERCI……
اطال الله في عمرك و رحم الله اصدقائك
Salamat Elias!
Shukran mille merci
Keep opening our Eyes
Saleh Oweini
Stockhom
Great article from a great writer
هذا الرسالة إلى الغائب إدوارد سعيد جاءت في محلِّها تمامًأ!
سلمتَ عقلاً وفمًا، أخي إلياس!!
ولكن هناك تصحيح بسيط.
فالمقتبس النصِّي:
[كما كنب المتنبي:
اذا تأملتَ الزمانَ وصرفَه تيقنتَ ان الموتَ ضربٌ من القتلِ]
يجب أن يكون:
[كما كتب المتنبي:
اذا ما تأملتَ الزمانَ وصرفَه / تيقنتَ ان الموتَ ضربٌ من القتلِ]
حي يقظان، أنت كإسمك تيقظت فعلا لتصحيح الخطأ وسبقتني للمعروف. شكرا لك.
كم نحن مشتاقين لك يا بروفيسور ادوارد سعيد
أخي الياس ؛ أزمة المثقف العربي ..ليست بينه وبين نفسه ، أو بينه وبين ما يأمل استرجاعه من أموات هـم أحياء بيننا ..؛ خلدوا بكلماتهم مواقفا وفكرا وايمانا لما اعتنتقوه …لم يموتوا ؛ وتركوا لنا صلة الوصل بيننـا وبينهم ..؛ انها صلة ,,,الخلق أو الأخلاق .؛؛لم تعد كما استقي من خلال كلماتك ، لم تعد المحنة بين مثقف وسلطة …وسيان ما كانت هذه السلطة ؛؛ ان تلك السلطة وجمعها ..كسلطات ، مــا كان لهأ أن تتسلط ( لو لـم ) يتم اجهاض ( الثقافة والمثقفين ) بسلاح الانهيار الأخلاقي .؛؛ نعـم هذا رأيي ولم أزل أكرره منذ التقيت للمرة الأولى والأخيرة ب أحمـد علي جبريل ( القيادة العامة للجلهة الشعبية ) ؛؛ اكان في وقتها …حديث …الفصل ( التسريح ) وحــّل كتيبة منظمة التحرير كنواة لجيش النحرير الفلسطيني المرتقب …حينها وبعدها ؟؟. قلت لـه أننـا نعيش ( أزمـة أخلاق ) في مجتمعنا العربي …؛ وكان ذلك ردا على موقفه من النظام ( الجديد ) والذي بدا ..لا أخلاقيا ..في استيلائه على مفاصل الثورة التي قام بها مجموعة من الضباط ..يجمعهم هدف واحد ؛ هو ازالة عار الانفصال واعادة وحدة القطرين المصري والسوري للوحدة التي تجسد من خلالها كل أمل بازالة الخيــام وعودة النازح الفلسطين لأرض ابائه وأجداده ..؛؛؟؟ لكن ، وبغض النظر عن المضاربات المتعددة للكيفية التي ( وصل ) خلالها ..الطائفيون ومن شاركهم الحقـد .؛؛ على أمتنا ، بغض النظر عن تلك وذاك ..فان المنحى الذى اتخذتـه تلك المجموعات الطائفية ( وبتنظيم وبرمجة سابقة بغاية الدقة والاحكام ) ليدل قبل كل شيء على الأسلوب اللآأخلاقي للتعامل بين ( رفاق طريق وشركاء في الوطن ) ..ركب أشياه ( المتعلمين ).. موجته لفتح طريق …لم تزل الأمة وليست سورية وحدها فقط .؟؟ تسير عليه الى ما لا يعرف مــــــداه ..؛ بل مستقره .؛؛ وسيان يا أخي أكانت نظرلتنا اليوم ولأي اتجاه قد نختـار ..فاننا سنصطدم ( آليا ) بحاجز اللآأخلاق ….تتبلور هذه الصورة عندما يتساءل من يشاء ..؛ بأي ضمير ..وبأي دافع يستطيع ( طيار ) أن يلقي جحيم نيران صواريخ وقنابل وبضغطة بسيطة من اصبعه ليدمر ويحرق ويقتل أبنـاء وطن عاش فيه وبه …ومع من هم تتفحـم أجسامهم ( بفعل يديه .؟؟ ) ما الذي…كان …يربط بينه وبين تلك الكائنات البشرية ؟؟؟ والتي كلمها طيلة حياته ؛ وبلغتها لغتــه ؛؛ آكلا من خيرات التراب الذي نشأ هو وهــم فوقــه ؟؟؟ أين اختفى الرادع ..؟ ؟…أم قتـله …الدافع ؟؟ وماهو هذا. الدافع ؟؟؟ …..في قاهرة المعــز أم الدنيا ….لقـي ( طوعا ..؛) ا لكثيرون من المضللين حتفـهم .؛؛؛ استجابة لطلب ( واعظ ) أصّر على الادعاء ( بالتقوي وزهد الدنيـا ) .؛؛؛ أصر على أن لا يتنازل ..طوعا …عن منصب فشل ادارة دفته منذ ساعاته الأولى…؛؛ أصر على البقاء ولتذهب آلاف الأرواح سدى ( فشرعية ) ما أوصلـوه اليه ( تفتي ) لــه حـلالية كل المحرمات ..؛؛ ؟؟ …على أن أقول هنـا كعربي ومسلم أيضا .. كيف للعقـل السليم وأي كان معتقده الديني .. أن يوفق بين أخلاقيــات علمنا اياها المولى تعالى على أيدي رسـله وأنبيـائه المكرمين.. وما نراه من انحــدار ,,هدم كل أسس الخلق والمكرمات ؟؟؟ اين بقي موطن التضحية في سبيل الأهداف السامية والنبيلة ..؟ وهل هناك خلـقا أسمى وأنبــل من انقــاذ أمن الوطن وأرواح أبنــائه ..؟؟ في التخلي عن منصب زائل مهما طال به الزمن ؟؟ …لم يعد للمثقف العربي هنــا من سلطان ينجز المعجزات …؛ فالتخلف ( المبرمج سياسيا وسلطويا ..؛ ) هو عماد خيمة الخيبة والذل الذي تعاني أمتنا به ومنــه …؛؛ تخلفــا أنبتــه ( الفقـر ..؛ ) المورث للجهــالة … ولا يمحيها سوى العلم والوعي والقدرة على قول كلمة الحق بوجـه سلطة شرّعت وجودهــا فوق أشلاء الجهـــل والظــلام ؛؛؛……اليقظة والربيع المحصن بالعلم والوعي لا بـــد لــه من …أن تزهـر ..أغصــانه . د/ طارق الخطيب ـ القوميون العرب