أوجعتهم عمليات المقاومة في عمق الثكنة الاستيطانية، فأرادوا أن يوجعوا الشعب الفلسطيني بكامله فما العمل؟ هل يغتالون واحدا من قيادات المقاومة لإشفاء غليلهم وتبريد جروحهم؟ ولكن الثمن سيكون باهظا. وهل نسوا الثمن الذي دفعوه بعد اغتيال خليل الوزير أو يحيى عياش أو أحمد ياسين؟ إذن فليبحثوا عن هدف سهل يوجع الجميع من دون ثمن، أو هكذا ظنوا، الجواب كان شيرين أبو عاقلة.
شيرين مراسلة بحجم الوطن، ملتزمة بنقل معاناة شعبها للعالم بصدق ومهنية. صحافية فريدة من نوعها ومن طراز مختلف. إنسانة رقيقة ولطيفة وصدوقة. كل بيت فلسطيني في فلسطين أو الشتات يعتبرها واحدة من أهل الدار، ابنة أو أختا أو صديقة أو جارة أو طالبة. استقرت في قلوب شعبها الذي بادلها الحب بالحب والتقدير والتبجيل. لقد أنشأت طوابير لا نهاية لها عبر العالم من المتابعين لتفاصيل المعاناة الفلسطينية يوما بعد يوم، من خلال صوتها العميق الدافئ الممزوج بالحزن؟
اغتيال شيرين سيدخل الحزن لكل بيت فلسطيني في كل مكان، هكذا قرروا وهكذا نفذوا. أرسلوا قناصا متمرسا أطلق ثلاث رصاصات عن بعد 150 مترا، الثالثة انفجرت في دماغ شيرين. فرح القاتل بإصابة الهدف. قهقه واحتضن بندقيته بحنان وضرب كفه على كف زميله في العربة العسكرية. ضحك الاثنان ضحكة غبية. أخرج القاتل علبة السجائر بكل برود أعصاب، ودعا زميله للمشاركة في التدخين بعد اختفاء دخان الأي- كيه 47. “أقتل كي تكون” هذا شعار المارقين في كيان مارق لا ينتمي إلى الحضارة الإنسانية.
دموع شعب
على شيرين يجوز البكاء والحزن “فليس لعينٍ لم يفضْ ماؤها عذرُ”. أحسسنا أن أركان الأرض قد تصدعت وأن الكارثة دخلت كل بيت. تلقيت التعازي كغيري وأرسلت التعازي للزملاء في مهنة المتاعب. كل فلسطيني كان يعزي ويُعزّى. أوجعني بكاء وليد وإلياس وجيفارا. وتواسينا أنا وبيسان أبو كويك وعبد الرحيم فقرا ومراد هاشم ورامي عياري، وتذكرنا زيارتها الأخيرة لمقر الأمم المتحدة عام 2014. أعرف كم هي محبوبة من زملائها. كنت ألتقي بها في مكتب “الجزيرة” برام الله. دائما في حركة لا تتوقف كالنحلة. تشعر بأن متاعب الشعب الفلسطيني الجمّة مسؤوليتها هي، وعليها أن تحمل هذه الأعباء وتوزعها على العالم. كلما نـُشرت شجرة زيتون كانت هناك تنحنى على ساقها المكسور. كلما هُدم بيت وقفت أمام الركام ووجهها يعكس عمق المأساة ويتهدج صوتها أكثر، في محاولة لمداراة الحزن العميق. كلما استشهد طفل أو امرأة أو مسن، وضعت نفسها في نسيج العائلة المنكوبة، تواسي جراحهم وتخفف من آلامهم وأحزانهم وتنقل وجعهم للعالم. فتحت جبهة عريضة للدفاع عن حيّ الشيخ جراح، وهي ترابط أمام البيوت لتحمي سكانه من الإخلاء الظالم، رابطت في الأقصى مع المرابطين والمرابطات. جلست على درجات باب العامود لتكون قريبة من الناس الذين يدافعون عن القدس. تمسكت بهويتها المقدسية، رغم محاوات التفريغ والطرد والمصادرة. لم يبق مكان في فلسطين كلها دون أن تصله شيرين وتتفاعل مع أهله وتنقل آلامهم وهمومهم. من قرى عكا وحيفا إلى النقب إلى كل قرية ومخيم ومدينة وضيعة وخربة. شاهدت بفرح تفكيك مستوطنات غزة واعتبرت ذلك نصرا مؤزرا. ودخلت باحات السجون لتصور الأسرى والمعتقلين، وتابعت حالات المضربين عن الطعام، ورابطت في الأغوار والكيان يصادر البيارات، وجلست مع الجالسين في خيمة الاعتصام في الخان الأحمر ورفعت صوتها عاليا ضد ما يلحق بالنساء الفلسطينيات من أذى وقهر وعربدة. أينما كانت تحل شيرين تجد الناس يعرفونها عن قرب، ويشعرونها بأنها بين أهلها وأصدقائها ومحبيها. لذلك كانت الفاجعة الجماعية برحيلها المبكر، أحس كل واحد منا أنه يدفن قطعة من قلبه.
أشواك نظام الفصل العنصري بدأت تذوي يا شيرين وزهور الحرية تنبت الآن أسرع في كل بقعة في فلسطين “الأرض التي باركنا حولها”
قادة المستعمرة فاجأهم هذا الحزن العارم الذي ألمّ بالناس على نبأ استشهادها، وفاجأهم أكثر تحول هذا الحزن إلى طاقة عارمة كالسيل يجرف كل ما يعترض طريقه. أعاد إلى الشعب روحه النضالية الصحيحة، بعد أن تشوهت على أيدي المهرولين والمتنازلين والمطبعين والمنسقين الأمنيين. ربطت جناحي الوطن وضمت الفصائل جميعها ووحدت الطوائف والمذاهب والتوجهات. دقت لها نواقيس الكنائس وكبرت لها المساجد وصلى الناس عليها جميعا كل بطريقته. أبّـنها الراهب والشيخ والعلماني والأصولي والرسمي والمدني والمسلح. تجمعت الجماهير أمام المشفى ليسيروا في جنازة تليق بها في شوارع مدينتها العتيقة، وصولا إلى مرقد والديها. هذه الجماهير الغفيرة كشفت أكثر عن همجية لا متناهية لهذا الكيان الذي لا يعرف إلا القمع والقتل والهدم. يده على الزناد أبداً لأنه خائف، لأنه يعرف أنه لص ومعتدٍ وإرهابي حقيقي، فيقررالاعتداء على التابوت وحملة التابوت والسائرين وراء الجنازة. هزموا من الداخل، وانتصر “القوم الجبارون”.
وراء الجنازة سارت الأمّـة
وراء جنازتها سارت الأمة كلها في وحدة قل نظيرها، ليس في فلسطين فحسب، بل في كل مناطق الشتات. حزن أصاب شرفاء الأمة من محيطها لخليجها. بكاها الصحافيون والكتاب والشعراء والفنانون والمذيعون والمناضلون والفصائل جميعها. تستحق هذا وأكثر. وحدت الشعب الفلسطيني خلفها، وانتصبت قامة عالية تضم في أحضانها كل المعذبين من أبناء وبنات وأطفال شعبها. فرشت جناحيها على البلاد فمد الغزاوي يده لابن حيفا والجنيني التقى بابن بيت حانون والريحاوي سلم على شباب وبنات الناصرة. وحدت الشعب ووحدت الأرض ووحدت القضية التي لا تنقسم إلا على واحد. أما هؤلاء الأغراب فإنما هم عابرون في كلام عابر والأحسن لهم ولنا “أن يسحبوا ساعاتهم من وقتنا ويرحلوا، فلنا في أرضنا ما نعمل”.
وراء الجنازة سارات جموع اللاجئين من 58 مخيما، وعلى رأسهم أبناء مخيم جنين الذي خبأها في حدقات عيونه ففاضت الدموع وحملتها الأيدي والأكف والأصابع. الأصوات المبحوحة من كثرة البكاء صاحت:
تلك المصيبة لا يرقى الحدادُ لها لا كربلاءُ رأت هذا ولا النجفُ
سمع صراخ جنين ومخيمها أبناء وبنات مخيم اليرموك المدمر، فتجمعوا من كل أرجاء الدنيا وساروا وراء الجنازة وبكوا شيرين وتذكروا أحبابهم الذي قضوا تحت أنياب الجوع والقذائف والبراميل وهم ينعون الشهيدة. وراء الجنازة سارت مخيمات النيرب ونهر البارد وعين الحلوة والوحدات وجرش والرشيدية والدهيشة والفوار وعقبة جبر وجباليا ورفح. وراء الجنازة سارت زهرة المدائن بشيبها وشبابها وأطفالها وضيوفها وكهنتها وشيوخها، فالقدس هي أمها وأبوها وبيتها وصديقتها وعشقها الأبدي. خاضت المدينة معركتها مع البرابرة الهمجيين، فانتصرت السواعد الصلبة والقلوب المقدامة، وكم تمنت أرض القدس ألا تواريها الثرى وتتركها على صهوة جوادها تصول وتجول في ميدان المواجهات. وراء الجنازة سار أبناء فلسطين والعروبة في المهاجر من سانتياغو إلى باترسون ومن سيدني إلى لندن ومن مالمو إلى كوالا لامبور ومن شيكاغو إلى إسطنبول ومن الكويت إلى الجزائر ولم يختبئ إلا الخونة والمطبعون وأرانب المواجهات وصهاينة صفقة القرن الإبراهيمية. اختبأوا كالفئران وراحوا يطلقون الفتاوى لعل ساذجا ينتبه لهم ولهرطقاتهم.
عزاؤنا أن شيرين سقطت وهي على صهوة الجواد ترفع الميكرفون، سيفها العصري الأمضى تقاوم به العدو والعالم يشاهد النزال. سقطت برفقة عدسة الكاميرا التي كانت تدعو الملايين للمشاركة في المواجهة. وعزاؤنا أنها سقطت في المخيم أقرب البقاع وأعظمها صنعا للحدث. وعزاؤنا انها احتضنت تراب فلسطين وجبلته بدمها لحبها العميق لهذا التراب الغالي. وعزاؤنا أنها عادت شهيدة إلى قدسها الواحدة الموحدة التي لا تفتح قلبها إلا لعشاقها الأصلانيين، وتكره الغرباء الذين يحاولون أن يفرضوا ظلهم الثقيل عليها بقوة المسدس والأسطورة التافهة. عزاؤنا أن شيرين باقية في القلوب واسمها سيأخذ مكانه في الساحات والشوارع والميادين والمدارس والمهرجانات والجوائز والمجمعات والصحافة والدورات ونشرات الأخبار. جزيرتها العزيزة ستصبح “جزيرات” تمتد عبر أركان الأرض. أيقونة فلسطينية تعلق نياشين المجد فوق رأسها وتنتقل لمجاروة ناجي العلي ومحمود درويش وإدوارد سعيد وغسان كنفاني وتيريز هلسة، وفي الطريق ستمر لإلقاء التحية على زملائها طارق أيوب وعبد الله فضل مرتجى ومازن الطميزي نزيه عادل دروزة وحنا مقبل وسمير قصير. لا تنسي يا شيرين أن تقرئي السلام لرزان النجار ومحمد الدرة وهنادي وصابرين وهيثم غالية.
أشواك نظام الفصل العنصري بدأت تذوي يا شيرين وزهور الحرية تنبت الآن أسرع في كل بقعة في فلسطين “الأرض التي باركنا حولها”. لم يتوحد شعبنا مثلما وحدته في حياتك وفي مماتك. وهل هناك أجمل وأشرف وأرقى وأعظم وأكثر تأثيرا من هذه الشهادة في نقع المعارك. ألا لا نامت أعين الجبناء.
* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي
كل التقدير على المقال المعبّر عن الواقع وعن حجم الوجع.