«مجد وألم»… السينما كمخلص وملاذ من الألم في فيلم بيدرو ألمودوفار

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

كان ـ «القدس العربي»:  أهي تغريدة البجعة؟ أهي أغنية الوداع؟ هذا أول ما يتبادر للأذهان عندما نشاهد فيلم «ألم ومجد» للإسباني بيدرو ألمودوفار، في المسابقة الرسمية في مهرجان كان في دورته الثانية والسبعين. إنه فيلم ذاتي لحد كبير ومرهف الحس لحد كبير عن مخرج سينمائي يمعن النظر في حياته، في طفولته، في آلامه واعتلالاته الجسدية والنفسية، وعن قصص حبه التي خلفت أثرها في نفسه. ولكنه أيضا عن علاقة هذا المخرج بالسينما، التي وجد فيها مخلِّصا ورفيقا وسببا للحياة وتعبيرا عن كل تجاربه وآلامه.

طالما كان الطابع الشخصي الاعترافي سمة من سمات أفلام ألمودوفار، ولكن ربما كان «ألم ومجد» أكثرها اعترافية، وأكثرها إقرارا بالألم واستشرافا للموت، الموت الجسدي لجسد يتألم، ولكنه يحصل على لحظات من المجد، وربما السعادة عن طريق السينما والكتابة، ووضع ذاته بكامل أعطابها ورهافتها على شاشة السينما. يمكننا القول إن سلفادور مايو (أنطونيو بانديراس)، المخرج الذي يكشف أمامنا ذاته في فيلم «ألم ومجد»، هو الصورة الأكثر حميمية وكشفا، التي صور بها ألمودوفار ذاته في فيلم من أفلامه. الألم والأسى والوحشة والحنين، هي المشاعر الغالبة على حياة مايو، وربما المجد يتبدى لنا في لحظات عابرة في حياة هذا المخرج، لحظات كلها يتعلق بنجاحه السينمائي، أو ربما المجد هو حلم يصبو إلى تحقيقه عبر أفلامه. السينما هي سبيل مايو ليس فقط للتعبير عن ذاته وذكرياته، ولكن أيضا للتغلب على آلامه وتنسم بعض لحظات من الخلود.
«ألم ومجد» فيلم داخل فيلم، أو بصورة أحرى عن مساعي مخرج لإنجاز فيلم عن حياته. هو فيلم ينتقل بين الحاضر والماضي، وتتشعب القصص بداخله، ولكن يد ألمودفار تحكم الإمساك بكل الخيوط، ولا تفلت أيا منها، فنشعر بأننا نسير في طريق ممهد أثناء مشاهدتنا للفيلم، ولا نضل طريقنا فيه. يمكننا القول إن ألمودوفار حكاء من الطراز الأول ينسج حكاياته عن عالمه الذاتي، فنعيش داخل الحكاية بكل حواسنا، ويغدق علينا ألمودوفار تفاصيل عالمه التي نميزها ونتعلق بها، كما نتعلق باللونين الأزرق والأحمر المميزين لعالم ألوانه وعالمه البصري. يبدو لنا بانديراس خير خيار للعب دور سلفادور، فهو رفيق مسيرة ألمودوفار في الكثير من أفلامه، ويجسد شخصية سلفادور مايو بحساسية وفهم كبيرين. يبدأ الفيلم بسجل من الآلام، حيث يعدد مايو على مسامعنا الآلام الجسدية التي ترافقه في حياته، من طنين الأذنين، لآلام الظهر المبرحة، للصداع وآلام الشقيقة، للأوجاع النفسية والاكتئاب، وهي جميعها آلام تهدد بأن تفتك به، ويتعامل مع الكثير منها بتعاطي جرعات كبيرة من مسكنات الألم، أو من المخدر. هي لحظة اعترافية لدرجة كبيرة يقر فيها ألمودوفار إن بعض الأوجاع لا يقدر الأطباء على علاجها، ولا سبيل لتسكينها لفترة وجيزة إلا المخدر.

يكشف لنا الفيلم العلاقات الأكثر تأثيرا في حياة سلفادور، وأكثرها ألما وبهجة في آن. العلاقة الأقوى هي علاقته بأمه.

سلفادور، الذي يبدو لنا في الفيلم في عقده الخامس، توارت عنه الأضواء، أو ربما يعاني من ركود إبداعي طويل، ولكن تكريم السينماتيك في مدريد لفيلم أخرجه من أعوام طويلة، يضعه في خضم من الذكريات ومن آلام الماضي، ويعيد صلاته بعالم يعيش في عزلة عنه منذ أعوام. يعيده هذا التكريم إلى حقيقة لا مفر منها: «بدون إنجاز أفلام، حياتي بلا معنى»، هكذا يقر لنفسه. كما تعيد قراءة عابرة مختلسة لنص كتبه قديما، صلاته بحب ضاع منذ أعوام طويلة، مخلفا ذكريات من البهجة والعشق والكثير من الألم. مزيج من الدفء والشجن والدموع والذكريات والضحك للتغلب على الألم والحسية واللمسات العفوية والمتعمدة، والأحضان والقبلات والذكريات الأولى للجسد، وذكريات التعلق بالسينما وعشقها، والألوان الصريحة الفاقعة، مزيج هو روح ألمودوفار وعالمه نراهما على الشاشة.
في «ألم ومجد» يضع ألمودوفار بين أيدينا ذاته في كامل هشاشتها، بدون تجمل أو تجميل، تلك الذات التي دوما ما تشعر بالذنب إزاء علاقة إشكالية مع الأم تتراوح بين الحب والرغبة في الابتعاد. هو فيلم يكشف لنا فيه ألمودوفار عن أن الموت هاجس من هواجسه والرغبة في التحقق عبر السينما هاجس أكبر. ولا نملك ونحن نشاهد الفيلم إلا أن نتعاطف مع هذه الذات المرهفة بكل ما تحملته من آلام.
يكشف لنا الفيلم العلاقات الأكثر تأثيرا في حياة سلفادور، وأكثرها ألما وبهجة في آن. العلاقة الأقوى هي علاقته بأمه (بنيلوبي كروز في دورها شابة، وخوليتا سيررانو في دورها امرأة مسنة)، هي علاقة يحفها الكثير من الذنب والشد والجذب والحب والخذلان. فسلفادور الصغير يدين لأمه بأنها أصرت على إلحاقه بمدرسة دينية كاثوليكية للتعلم حتى يكون له حظ أوفر من والده، لكنه في الوقت ذاته لم يرد لنفسه القيود التي تفرضها المدرسة الكاثوليكية. كما أنه يشعر بالذنب إزاء والدته في كبرها، فهي أوصته أن تدفن في قريتها، وفي ملابس بعينها، وهو يشعر بخذلانه لها وأنه نأى عنها في ضعفها واحتياجها له.
الذنب أيضا والإحساس بالرغبة الممزوجة بالإحساس بالخطيئة مشاعر نراها أيضا في إحساس سلفادور طفلا (أسيار فلوريس) إزاء ذلك العامل الشاب الوسيم الذي كان يعلمه القراءة. إنها بداية الرغبة لدى سلفادور وبداية معرفته بمثليته الجنسية.
«ألم ومجد» فيلم يتركنا وسط إحساس من الشجن ووسط تساؤلات عن تحققنا وما قد يخفف إحساسنا بالألم. ويتركنا مع التساؤل الأكبر: وجد سلفادور بعضا من المجد وبعضا من الخلود في عمله كمخرج وفي مشروعه الإبداعي الجديد الذي وضع فيه جل ذكرياته، فأين لنا نحن أن نجن مجدنا وتحققنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية