إسطنبول- “القدس العربي”: جلب التقارب الكبير الذي شهدته العلاقات التركية الروسية في السنوات الأخيرة على أكثر من صعيد، والعلاقة التي وصفت بـ”الاستثنائية” بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، انتقادات غربية قوية ومختلفة واتهامات لأنقرة بالابتعاد عن المعسكر الغربي والاتجاه نحو روسيا وصولاً لفرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها أسلحة روسية.
لكن على الرغم من التقارب التركي والاتهامات لأنقرة بالإضرار بالناتو والابتعاد عن المعسكر الغربي إلا أن الكثير من الأحداث تشير إلى أن تركيا كانت الأكثر تضييقاً على روسيا في السنوات الأخيرة لا سيما فيما يتعلق بمواجهة مساعيها للتمدد والانتشار بشكل أوسع على حدود الناتو المختلفة، في مشهد يبدو معقداً إلى حد كبير ويظهر مستوى تشابك وتداخل العلاقات التركية مع روسيا والناتو على حد سواء.
وعلى الرغم من تلاقي مصالح البلدين لا سيما فيما يتعلق بالتعاون السياسي في عدد من الملفات إلى جانب تعزيز التعاون الدفاعي وبيع أنقرة منظومة إس- 400 الدفاعية، إلا أن العلاقات وصلت حد الصدام العسكري الكبير غير المباشر في سوريا وليبيا وبشكل آخر في قره باغ وهو ما ترافق أيضاً مع القدرة على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة والحديث عن “تعاون وثيق” والتغني بالقدرة على “إدارة الخلافات” وهو ما يزيد المشهد تعقيداً بشكل كبير.
على الرغم من تلاقي مصالح روسيا وتركيا لا سيما فيما يتعلق بالتعاون السياسي في عدد من الملفات إلى جانب تعزيز التعاون الدفاعي وبيع أنقرة منظومة إس- 400 الدفاعية، إلا أن العلاقات وصلت حد الصدام العسكري الكبير غير المباشر في سوريا وليبيا وبشكل آخر في قره باغ
فعقب إصرار تركيا على إبقائها قواتها في مناطق سورية حدودية ودخولها في مواجهة عسكرية شبه مباشرة مع روسيا، نجحت أنقرة في منع سيطرة قوات خليفة حفتر المدعومة من روسيا على كامل ليبيا، قبل أن تتمكن من وضع موطئ قدم لها في القوقاز وتطرد الجيش الأرميني المدعوم من روسيا في قره باغ بأذربيجان، وصولاً لتصدر الموقف المعادي لضم روسيا لشبه جزيرة القرم ومساعي موسكو لضم دونباس في أوكرانيا ومد الأخيرة بالدعم السياسي والعسكري، إلى جانب بيع بولندا مسيرات تركية متطورة وإرسال مقاتلات تركية ضمن مهام الناتو على حدود روسيا وهو ما يزعج موسكو بشكل كبير جداً.
ففي سوريا، ومنذ سنوات، تسعى روسيا للتفرد بالملف السوري والسيطرة على الأرض عسكرياً بشكل كامل، وهو ما قاومته تركيا بقوة طوال السنوات الماضية، وعلى الرغم من خسارتها الكثير من مناطق سيطرتها إلا أنها أصرت على البقاء في شريط حدودي مهم لأهداف مختلفة لكن أبرزها منع روسيا من التفرد والادعاء بانتهاء الأزمة السورية. وأدت مساعي روسيا لإجبار تركيا على سحب قواتها عسكرياً إلى مواجهة عسكرية كبيرة بين الجيش التركي وقوات النظام السوري كادت تتحول لمواجهة عسكرية مباشرة بين الجيشين التركي والروسي، وحتى اليوم تبقي تركيا قواتها هناك وتقول إنها تؤمن الحدود الجنوبية للناتو الذي يرفض تقديم الدعم لها في هذا الملف.
أما في ليبيا، فقد ظهرت بوادر مخطط روسي للسيطرة على كامل البلاد من خلال تقديم الدعم العسكري للجنرال حفتر وأرسلت لهذا الغرض مرتزقة فاغنر ولاحقاً طائرات حربية وقتالية وكادت بالفعل أن تبسط سيطرتها على ليبيا المقابلة لسواحل أوروبا والناتو لولا التدخل العسكري التركي لصالح حكومة الوفاق ونجاح هذا التدخل في منع سقوط العاصمة طرابلس وإعادة القوات المهاجمة إلى خط سرت- الجفرة وتكثيف الضغوط الدولية على روسيا لسحب قواتها ومرتزقتها. ورغم الخلافات والانتقادات الغربية للتدخل العسكري التركي في ليبيا إلا أن مسؤولين بالناتو وخبراء عسكريين أكدوا أن هذا التدخل كان مهماً جداً وفي صالح أوروبا والناتو.
وفي قره باغ، نجحت تركيا في اللعب فيما تعتبره روسيا حديقتها الخلفية، وقدمت كامل الدعم العسكري لأذربيجان لتحرير إقليم قره باغ الذي كانت تحتله أرمينيا وتتمتع بدعم روسي، ورغم وجود اتفاقيات ثنائية بين روسيا وأرمينيا للدفاع المشترك إلا أن تركيا نجحت في مواصلة دعم العملية عسكرياً حتى طرد القوات الأرمينية ونشر قوات ولو محدودة لها هناك، وهو ما اعتبر بمثابة مناورة لروسيا واشغالها في منطقة لم يفكر أحد يوماً في ازعاج روسيا فيها على الإطلاق.
وفي شبه جزيرة القرم، ما زالت تركيا تتخذ موقفاً صلباً من رفض الضم الرسمي وتسعى بشكل دائم لتقديم الدعم لأتراك القرم وتعزيز قدرتهم على مقاومة الضم الروسي وهو ما يغضب موسكو بشكل كبير جداً ودفعها قبل أيام لتهديد تركيا بإثارة ملف الأقليات الدينية والعرقية في البلاد رداً على مواقفها المتكررة من قضية شبه جزيرة القرم.
وفي الملف الأوكراني بشكل عام، تدعم تركيا بقوة ضم أوكرانيا لحلف الناتو وتحركت مؤخراً لإثارة المواقف الدولية ضد الخشية من تدخل عسكري روسي في دونباس وزادت من مستوى التنسيق السياسي والعسكري مع كييف قبيل التوقيع على مزيد من الاتفاقيات الدولية مع أوكرانيا وهو ما زاد من الغضب الروسي لا سيما بيع كييف مسيرات تركية من طراز بيرقدار التي بدأت فعلياً بالتحليق لرصد التحركات الروسية في البحر الأسود ودونباس وغيرها من المناطق، وهي خطوة كفيلة لوحدها في أثارت الغضب الروسي من تركيا كونها المسيرة التي يجمع مراقبون على أنها “أهانت” الصناعات الدفاعية الروسية في سوريا وليبيا وقره باغ.
وفي بولندا، الدولة الجارة غير المباشرة لروسيا، لم تكتف تركيا ببيعها 24 مسيرة متقدمة من طراز بيرقدار، بل أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده سوف ترسل قريباً طائرات حربية من طراز إف- 16 إلى بولندا كجزء من مهمة المراقبة المعززة التابعة لحلف شمال الأطلسي، وهي أحدث خطوة في سلسلة التحركات التركية التي تزعج روسيا وتضيق عليها في بعض المحاور الحدودية مع الناتو.
السياسة فن الممكن, والغير ممكن!
إنها البراغماتية, حيث لا مبادئ!! ولا حول ولا قوة الا بالله