رهان «بوتين» ورهان الغرب

ربما يكون من المبكر جدا، أن نحكم على النتائج النهائية للهجوم الأوكراني المضاد، وهو في حقيقته هجوم غربي من وراء القناع الأوكراني، وقد بدأ قبل نحو أسبوعين، حسب التوقيت الروسي، فقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أولا عن بدء الهجوم، وتلكأ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكى لبعض الوقت، ثم سلم بالرواية الروسية عن شن الهجوم، وكان اعترافه الأول في حضور رئيس وزراء كندا جاستن ترودو.
وربما يكون ذلك هو الملمح الأول لما جرى ويجري هذه المرة، فالروايات الروسية أسبق وأصدق، وكذا الدعاية الحربية الروسية، المدعومة بسيل عرم من «الفيديوهات» الحية، وأغلبها يصور مشاهد ومذابح إفناء الدبابات الألمانية من طراز «ليوبارد ـ 2 « والمدرعات الأمريكية من طراز «برادلي»، ثم «فيديوهات» استيلاء الروس على الدبابات والمدرعات، مع استعراض مقصود لدور الطائرات المسيرة الروسية الانتحارية «لانسيت ـ 3»، وقد أثبتت تفوقها الباهر على نظيرتها الأمريكية «سويتش بليد»، وفي البداية صمتت الدعاية الغربية، ثم راحت الاعترافات تتوالى، اعترفت أولا شركة «راين ميتال» المصنعة لدبابات «ليوبارد» فخر السلاح الألماني، وتبعها وزير الدفاع الألماني في حوار مع صحيفة «بيلد»، الذي أكد أنه ليس بوسع ألمانيا التعويض عن الدبابات المدمرة، فيما انهارت أسهم شركة تصنيع السلاح الألماني الكبرى في البورصات، فهذه أول تجربة حربية واسعة فعلية لدبابات «ليوبارد ـ 2»، وقد نسفت الأساطير المروجة حول قدرتها ومزاياها اللامتناهية، وقدمت روسيا أعلى الأوسمة العسكرية لأبطال حرق الدبابات، وبدا التصرف مفهوما بالقياس إلى التاريخ الروسي ـ الألماني، فروسيا تعتبر أن حربها الوطنية العظمى، هي تلك التي دارت في الحرب العالمية الثانية ضد النازي الألماني هتلر، وقد شن حملة كبرى على روسيا «السوفيتية»، عرفت باسم عملية «بارباروسا»، شارك فيها نحو خمسة ملايين عسكري، واستمرت لسنوات، قتل فيها أكثر من 25 مليون روسي، لكنها انتهت بنصر تاريخي للروس، ودخولهم الظافر إلى برلين، ومن هنا نفهم انفعالات الروس وحماستهم الفائقة لدحر الدبابات الألمانية اليوم، وإعراض الرئيس الروسي عن تلبية رغبة المستشار الألماني بالتواصل هاتفيا معه، وقد جرى ذلك مع أوائل أيام الهجوم المضاد، فقد بدا بوتين في مدار آخر هذه المرة، وتكررت مرات ظهوره المباشر للحديث عن ما يجرى ميدانيا، وفي ظهوره الأخير مع الصحافيين والمراسلين العسكريين، بدا واثقا مطمئنا، وأعلن أن خسائر الطرف المقابل عشرة أمثال الخسائر الروسية، ولم يخف نقاط ضعف بدت في العمق الروسي، وبالذات في المقاطعات الحدودية مع أوكرانيا، شجعت خصوم روسيا على توجيه ضربات لمدن روسية، وصلت إلى شن هجمات بالطائرات المسيرة على العاصمة موسكو نفسها، ووعد بتحصين عاجل للدفاعات الجوية وغيرها، ولوح بإنشاء منطقة عازلة داخل أوكرانيا، وجعلها حاجز وقاية للداخل الروسي، ربما في إشارة إلى ما أعلنه سابقا حاكم مقاطعة «بيلجورود» الروسية المحاذية لأوكرانيا، التي تعرضت لأكثر ما يسميه الروس بالهجمات «التخريبية» الأوكرانية، ولا حل جذري عند حاكم المقاطعة، إلا بالاستيلاء على كل أو أغلب مناطق مقاطعة «خاركيف» الأوكرانية المجاورة، وقد كانت القوات الروسية فيها بالفعل، قبل أن تنسحب تحت ضغط هجوم أوكراني خاطف في خريف 2022، رغم أن مقاطعة «خاركيف» ليست من المقاطعات الأربع، التي أعلنت روسيا ضمها رسميا أواخر سبتمبر 2022، لكنها تبدو ملاصقة متداخلة على نحو خطر مع حدود روسيا، وتستخدم مع منطقة «سومي» كمنصات متقدمة لشن هجمات من جهة أوكرانيا، تتنصل منها كييف في العادة، وتقول إن المهاجمين روس، وممن تسميهم فيلق «حرية روسيا» أو من «المتطوعين الروس»، المعادين لحكم بوتين، وقد ثبت مع صدامات ميدانية، أن أغلب هؤلاء من البولنديين لا الروس، وقد ضبطت معهم مدرعات وأسلحة أمريكية، وهم بعض من أفواج الفيالق الأجنبية، التي تضم آلاف الجنود والخبراء من الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين والجورجيين وسواهم، ويعملون كالأوكران بتنسيق تام مع «القوات الخاصة» الأمريكية الموجودة، بدعوى حماية السفارة الأمريكية في «كييف»، على نحو ما كشفت عنه الوثائق الأمريكية المسربة، وليس من أحد يخفي عمق التورط الغربي المباشر في الصراع، ليس فقط بدلالة المئة مليار دولار، تكلفة السلاح المتدفق لأوكرانيا إلى اليوم، بل بتقديم خدمات الجنرالات في التخطيط والمتابعة لعمليات الجيش الأوكراني، وتجري تغطية ذلك كالعادة، بوصف هؤلاء بأنهم عسكريون متقاعدون، إضافة لخدمات أجهزة المخابرات الغربية كلها، وبالذات من المخابرات الأمريكية والبريطانية، وخدمات المعلومات المنقولة لحظيا من مئات الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية المملوكة لدول الغرب، مع الاستعانة بدعم مالي عسكري واقتصادي، جاوز 500 مليار دولار إلى الآن، وطوفان أسلحة بالمجان من 54 دولة تحارب روسيا في الميدان الأوكراني، لا تضع سقوفا ولا خطوطا حمرا على نوعية الأسلحة، إلى حد أن واشنطن التي قررت تزويد أوكرانيا بطائرات «أف ـ 16»، وأضافت طائرات «أف ـ 18» تبرعت بها استراليا، وقررت أيضا أن تحذو حذو بريطانيا أخيرا، وأن تزود الجيش الأوكراني بقذائف اليورانيوم المنضب، وأن تعجل بإرسالها مع العشرات من دبابات «أبرامز»، وأن تضيف إليها القنابل العنقودية المحرم استخدامها دوليا، ما قد يفتح الباب لصدامات مدمرة أكثر، وبالذات بعد إعلان بوتين الأخير، وتأكيده استعداد روسيا للرد بقذائف اليورانيوم المنضب، الذي سبق لأمريكا استخدامه في حربي العراق وصربيا، وبدت آثاره كارثية على الهواء والصحة ومضاعفة إصابات السرطان، وشهدنا مدى خطورته في أوكرانيا نفسها، حين قامت روسيا بقصف أكبر مخازن السلاح الغربي وقذائف اليورانيوم في مدينة «خميلينتسكى» غرب أوكرانيا قبل أسابيع، وكان الحريق نوويا بامتياز، وعلى صورة «المشروم» الناري المرعب المعروف عن التفجيرات النووية، ما قد يعنى أن الحرب قد تنزلق إلى الحافة النووية، وبالذات بعد إكمال تجهيزات نقل أسلحة نووية تكتيكية روسية إلى بيلاروسيا في 8 يوليو المقبل، حسبما أعلن عنه بوتين أخيرا.

يسعى بوتين لاستنزاف تدفقات السلاح الغربي، ونزع سلاح أوكرانيا بالتدريج، وعقيدته أن كسر السلاح المعادي أسلم طريقة لكسب الأرض، وتثبيت أقدام القوات الروسية

وقد بدا تفجير سد «نوفاكاخوفكا» كعنوان مفزع لبدء الحرب الجديدة، وجرى تبادل الاتهامات بين روسيا وأوكرانيا، ومالت واشنطن كالعادة إلى اتهام روسيا، وإن بدت مصداقيتها في الحضيض هذه المرة، خصوصا أن الاتهام الجديد تواقت مع فضح أكاذيب أقدم، بدليل ما نشرته صحف أمريكية كبرى، اعتمادا على ما سمته معلومات مخابرات، كشفت تورط الجيش الأوكراني في الإعداد لتفجير خطي «نورد ستريم» العام الماضي، بينما راحت «الميديا» الألمانية تنشر معلومات عن تورط بولندا بدورها، وهو ما نسف اتهام الغرب السابق لروسيا بتدبير التفجير، وأعطى مددا إضافيا لرواية روسيا الأولى، التي اتهمت مخابرات بريطانيا وأمريكا بالتورط في العملية، وهو ما ذهب إليه الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش، الذي نشر قبل شهور تحقيقا استقصائيا، انتهى إلى اتهام الرئيس الأمريكي بايدن شخصيا بإصدار أوامر تفجير «نورد ستريم»، وقد تذهب قصة تفجير «نوفاكاخوفكا» إلى المصير ذاته، أو تظل سرا مستغلقا، وإن كانت أدت حربيا إلى وضع ظاهر، أغرق الهجوم المضاد على جبهة «خيرسون» مؤقتا، ونقل ثقل وخطوط الهجوم إلى جبهات «دونيتسك» و»لوغانسك» و»زاباروجيا»، فيما ادعت الدوائر الغربية والأوكرانية تحقيق مكاسب ميدانية بدت محدودة، لم تتعد استعادة السيطرة على عدد من القرى و»العزب» المهجورة، قالت عنها الدوائر الروسية، أنها تقع في «المنطقة الرمادية» بين خطوط الأوكران وخطوط دفاع الروس، التي بدت هائلة التحصين «السوفييتي» هذه المرة، ومستوعبة لدروس «عملية خاركيف» أواخر العام الماضي، وعازمة على منع الهجوم المضاد من تحقيق هدف له مغزى، ما دفع الأوكران ودول الغرب إلى إعلان جديد، يتوقعون فيه زمنا مفتوحا للهجوم، قد يمتد إلى شهور، حتى أواخر أكتوبر المقبل على الأقل، ويهدف إلى قطع خط التواصل البري الرئيسي بين روسيا وشبه جزيرة «القرم»، ودفع روسيا إلى قبول التفاوض، وهو ما لا يبدو مرجحا، ربما بسبب الروح المعنوية والقتالية الأفضل للروس هذه المرة، وبسبب رهان بوتين على كسب الحرب مهما تمدد زمنها، وهو لا يزال ينعتها بصفة «العملية العسكرية الخاصة»، ويسعى لاستنزاف تدفقات السلاح الغربي، ولنزع سلاح أوكرانيا بالتدريج، على ما يبدو من مداخلاته العلنية الأخيرة، وعقيدته أن كسر السلاح المعادي أسلم طريقة لكسب الأرض، وتثبيت أقدام القوات الروسية، بينما رهان الغرب ورهان بايدن في الاتجاه العكسي بالضبط، وربما يصح أن ننتظر ونرى ما يجرى في قابل الأيام والشهور.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية