لم يخف على أحد كيف خاضت فرنسا رهانا سياسيا واضحا عندما تخلى رئيس الجمهورية في الجمعة الأخيرة عن إعلان الحجر الصحي الكامل مجددا، رغم أنه تدبير، رأى الأطباء والمحللون في شبه إجماع أنه سيدخل حيز التنفيذ.
لفتني في هذا السياق، وهو سياق أقل ما يوصف بالمتوتر، تحليل رئيسة وكالة أخبار خاصة، اعتدنا متابعة مساهماتها في لقاء إعلامي شهير تبثه إذاعة France Info يوميا يحمل عنوان Les Informé(المطلعون). فقد عقدت الضيفة مقارنة بين قرار إيمانويل ماكرون واستراتيجيته، التي اعتمدها عند خوضه الحملة الانتخابية. «ما أن يجد ماكرون حيزا فارغا إلا ويستغله» قالت الضيفة بحماس حازم.. وهو ما حدث فعلا.
من جديد، طرح الرئيس الفرنسي، انطلاقا من المعطيات المتوفرة، كل المعطيات المتوفرة، استراتيجية خرجت عن كل رادارات التوقع الإعلامي، وهذا في المقابل، لم يكن مفاجئا. تحتمل المعطيات الطبية المتوفرة أكثر من تأويل.. أكثر من تأويل طبي، طبعا، أكثر من تحليل إعلامي ربما (لأن الإعلام الفرنسي في هذا المجال أكثر اعتمادا على الإثارة منه على ترك الباب مواربا أمام بوارق الأمل) ولكن أيضا أكثر من تأويل سياسي، ويعتمد التأويل السياسي على ثلاثة معطيات أساسية: الاقتصاد، التقبل والاستشراف. نعلم جميعا كم يؤثر حجر صحي في القدرة الشرائية لعدد هائل من المواطنين، كم يكلف من المليارات ميزانية الدولة، مليارات دأبنا، نسجا على منوال عبارات رئيس الجمهورية البليغة، على تصنيفها تحت مسمى «مهما كلف الثمن». أما درجة الاستعداد لتقبل إغلاق جديد، فمنعدمة تقريبا، ويخشى الرئيس هنا ردود فعل عفوي من الجماهير، على نطاق واسع، قد تصل الى الخرق المتواصل للتعليمات. مراجعا عدد إصابات مستقرة بحوالي 25000 حالة يومية، آخذا في الاعتبار الكلفة النفسية التي يخلفها الإغلاق – وقد أورد رئيس الوزراء العبارة بالحرف، في تصريحه الجمعة الماضية – سعى الرئيس الفرنسي إلى بناء استشراف على هذه الحسابات.. استشراف.. كلمة تبدو سحرية في سياق لا يلوح فيه مخرج في أفق النفق، حسب عبارة فرنسية شهيرة. فليكن استشرافا على المدى القصير، والاستشراف هنا، محاولة وتحد.
يراهن الرئيس الفرنسي على الذهاب إلى أبعد حد ممكن، ليضع الوباء تحت السيطرة، من دون اللجوء إلى إغلاق جديد
التحدي في مواجهة الوباء بتجزئة الحلول لا تعميمها، قد يبدو الكلام معقدا، لكن الأرضية نفسها معقدة، وإن أردنا الاجتهاد في الموضوع قليلا، يمكن القول إن الخطة تكمن في خلق استراتيجية صد وردع متعددة الأبعاد، لتفادي شل الحركة تماما. بدأت الاستراتيجية في اعتماد الجهات معيارا لتطبيق الإجراءات، بحيث خضع بعضها لحظر التجوال انطلاقا من الثامنة ليلا، ثم شمل الحظر ذاته الوطن بالكامل، قبل أن ينزل توقيت الحظر إلى السادسة مساء جزئيا، فكليا. ترك خيار الجهات (علما أن الأمر قد يكون متروكا إلى حين، فلا ننسى أن رئيس الوزراء جان كاستكس، خبير الجهات، وعلى هذا الأساس عينه الرئيس) لكن لم يترك نهج المعالجة حالة بحالة. من هنا التركيز على محاور، على وجوه، على مواطن يحتمل فيها تنقل مكثف للفيروس من جهة، ومن جهة ثانية تنقل نسخته المتحورة، البريطانية أساسا، وجنوب الافريقية أيضا. تفادي التنقلات المكثفة، إغلاق حدود، ومراكز تجارية، تكثيف الفحوصات، وطبعا، رفع جودة عملية التطعيم.. ما درجة نجاح هذه التدابير لتفادي حجر جديد؟
نعم، هذا رهان. ولكن ليس مجرد رهان تحكمه معادلات تدور حول نسبية تحقيق فرص نجاح «مثل لاعب الروليت في الكازينو» على حد وصف صحافي، إنه رهان سياسي أولا، يقوم على محاولة الرئيس تحقيق مكسب على المدى البعيد، مستعينا باستراتيجية على المدى القصير. المدى البعيد انتخابي.. طبعا. ويراهن الرئيس الفرنسي هنا على الذهاب إلى أبعد حد ممكن، ليضع الوباء تحت السيطرة، من دون اللجوء إلى إغلاق جديد. كل السؤال، هل سيكلل الرهان بالنجاح؟ هنا، أكثر من أي وقت مضى، عبارة «الأيام بيننا» بعيدة كل البعد عن التصنع البلاغي.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي