رواية «السقوط» لألبير كامو… كلنا مذنبون

حجم الخط
0

قد ينهي أحدنا الرواية التي صدرت بطبعتها الفرنسية عام 1956 قائلاً إن شيئاً لم يتغير اليوم. هذه الرواية، الأقرب لمونولوغ مسرحي، هي بيان أدبي يثبت معنى الشر لدى الإنسان الحديث، معنى أن يكون وجوده، في حد ذاته، فعلاً شريراً، بدون ممارسة ذلك الشر، أو تقصده، بالضرورة.
الراوي هنا، في الرواية القصيرة للفرنسي ألبير كامو (دار نينوى، 2019)، هو تجسيد لأنانية الإنسان الحديث، إنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية. والراوي – للمصادفة – محام وقاض مقتنع بأن «كما من الجرائم ارتُكبت، فقط لأن مرتكبيها لم يحتملوا كونهم مخطئين». يكمن الشر هنا في عقل هذا الإنسان، ليس في أفعاله، بل في ما لم يفعله، في تبريراته وحسب، وهذه عبثية نجدها هنا حين يقرر الراوي أن لا يمر على الجسر كي لا يصادف (مجدداً) من يقدم على الانتحار، ويضطر لإنقاذه ولا يفعل لأن المياه ستكون حينها شديدة البرودة، نجدها هنا كما نجدها في رواية كامو الأشهر حول عبثية السلوك الإنساني في «الغريب» (1942) حين قتل الراوي أحدهم لأن حرارة الشمس كانت شديدة.
ودفاع الراوي، كمحامٍ، عن مجرمين يمكن تبريره «أخلاقياً» كما هو الحال دائماً أمس واليوم وغداً، فقد كان يدافع عنهم «بشرط أن يكونوا قتلة طيبين»، وطريقته في دفاعه كانت تهبه «قناعة عظيمة»، فاصلاً بين القتل والشعور بالذنب لارتكابه.
تطرح الرواية ثيمة الذنب، أو تحديداً اللاشعور به، أو التبرير الفلسفي الأخلاقي لعدم الشعور به، لعاديته، وكذلك – بل تحديداً- للبرود والبلادة التي صارت تصيب أحدنا في زمننا الحديث، مقابل مصائب الآخرين لوفرتها! وتركيز الراوي على فكرة أننا مسؤولون عن كل شيء، هو تعويم للجريمة ومرتكبها، وهو إبعاد قائلها نفسه عن المسؤولية، تلك المسؤولية الفردية التي تستدعي التحرك وليست المختبئة – لأنانيتها – بجمعيتها، كالرؤوس المختبئة ببعضها.

الثورة كفكرة في «أسطورة سيزيف» المُعبر عنها بالانتحار، قد تشير إلى رغبة في الإنهاء على هذا العالم، أو «هذا الكوكب العزيز العتيق» بالشرور التي فيه، وهي فكرة انتحارية أُدينت بكتابات لاحقة لكامو «الطاعون» 1947.

أتت الرواية كاعترافات، مع تبريراتها، لراويها الباريسي في بار في أمستردام. مونولوغ وحيد عن مثالب الإنسان على «هذا الكوكب العزيز العتيق»، من أخفها وطأة إلى أشدها، من المجاملات إلى «كل إنسان يحتاج إلى العبيد كما يحتاج إلى الهواء النقي». ولا مخرج من تلك المعادلة إلا بالموت، فـ»لا يقتنع البشر بأسبابك وصدقك وجدية عذابك إلا حين تموت، وما دمت حياً، فإن قضيتك مغمورة في الشك، وليس لك أي حق في الحصول على غير شكوكهم». ويذكر الراوي أكثر من قصة سمع بها أو يعرف أصحابها، عن مآسٍ إنسانية نابعة من شر في دواخل مرتكبيها، ما كان حلها إلا بالموت، بالنحر أو الانتحار، أي بالاختفاء كالنقيض للوجود، فالشر بأشكاله ودرجاته ميزة إنسانية تامة. ما الذي يعنيه أن يكون القاتل «طيباً»؟
لكن، وفي عموم إرث كامو، «أسطورة سيزيف» 1943، مثلاً، هنالك إرادة دائمة للخروج من تلك المعادلة التي وإن قُدمت بشكل حتمي، تبقى الإرادة في عدم الخضوع لها، طريقاً لمنــــح معـــنى للحياة والسلوك الإنساني فيها، وتحديداً لنقض الشرور في دواخل الإنسان والمسببة لسلوكه أو الناتجة عنه. وسياسياً، كانت مواقف كامو تجاه الاضطهاد بشكليه الشيوعي والفاشي آنذاك، مثالاً.
الثورة كفكرة في «أسطورة سيزيف» المُعبر عنها بالانتحار، قد تشير إلى رغبة في الإنهاء على هذا العالم، أو «هذا الكوكب العزيز العتيق» بالشرور التي فيه، وهي فكرة انتحارية أُدينت بكتابات لاحقة لكامو «الطاعون» 1947، مثلاً، تشير إلى أن الثورة الأساسية على لا معنى الحياة تكون بالتضامن الإنساني والأخلاق. ونجدها كذلك في «السقوط»، في صفحتها الأخيرة تحديداً، حيث يخاطب الراوي وقد صار «القاضي التائب» الفتاة التي انتحرت ومنعته أنانيته من أن ينقذها قائلاً: «آه أيتها الشابة، ألقي بنفسك في الماء ثانية، لكي تتوفر لي فرصة أخرى أنقذ فيها نفسَينا معاً!».
الفكرة التي تقوم عليها «السقوط» وهي أننا «جميعاً مذنبون أمام بعضنا بعضا» ليست حتمية. لا يقدمها كامو في روايته القصيرة إلا كحال راهن ومرهون للشر في دواخلنا، ويمكن الثورة عليه بإرادة واعية. هذا ما بينت كتاباته، أو – لنقل- ما بيت تفسيرات لتلك الكتابات، لكن اليوم، في راهننا، لا يبدو أن تلك الثورة تزن ما يمكن أن يؤثر على تأصل الشر في الإنسان، وما يؤدي ذلك إليه من سلوك وفظائع.

٭ كاتب من فلسطين ـ سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية