رواية السورية ابتسام تريسي «سلّم إلى السماء»: ترميم الذات بألوان تحفظ رائحة المكان

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

كما في كل الفنون، لا يتوقف الكتّاب ويتبعُهم قُرّاؤهم، عن توليد الطاقة التي تساعد الكاتب نفسه، ومن ثم القارئ الذي يحلّ محله، على الحياة، إن كان العمل مميزاً بقوة التأثير، سواء بترميم الذات المجروحة بسكاكين الواقع والآخرين، أو التشافي من آثار لوم النفس وجَلْدها على ما ارتكبت وما لم ترتكب، أو حتى الانتشال من كآبة انسداد المخارج بشباك العجز، وربما الإنقاذ حتى من تخييم ليل فكرة الانتحار.
وتزيد قدرة الكتّاب على التأثير عندما يراكبون بغموض الجمال الحديثَ عن الأفعال وردودها، وما يستتر داخل الشخصيات، مع فعل الكتابة نفسه، سواء بخلق الثيمات الخاصة المستقاة من تلاقي الأحداث والطبيعة، أو بإقامة التداخل مع أعمال فنية خاضت في أنهار ذاتِ الموضوعات، تفاعلاً متضاداً أو متناغماً أو متشابكاً بإثارات تساؤلات التناغم والتضاد. وتنجح إقامات التراكب والتداخل هذه بصور مثيرة عندما يكون الأبطال أنفسهم روائيون أو فنانون أو شعراء يكتبون الرواية داخل الرواية.
رواية السورية ابتسام تريسي «سلّم إلى السماء» من الأعمال الأدبية التي لا تكتفي بتوليد الطاقة من خلال رواية أحداثٍ تمرّ وشخصياتٍ تعيشها فحسب، وإنما تزيد توليدها بتداخلٍ مزدوج، من ذاتِ بطلتها الرسامة المعجونة بالطبيعة إلى درجة محاولاتها تزويد اللون بالرائحة، ومن أعمال فنانين آخرين يمرّ منهم بيكاسو في لوحة عازف الغيتار العجوز من مرحلته الزرقاء، وأماديو الذي اشتهر بصور الطفل الباكي، ورامبرانت بعاصفة بحر الجليل التي تصور تهدئة المسيح للعاصفة؛ والشاعر الألماني شيلر في كتابه عن فلسفة الجمال، وسيرفانتس مع طواحينه وفرسانه ونسائه المعشوقات والعاشقات.
وقد ساعد تريسي في ألا يكون هذا التداخل الغني إثقالاً للرواية اختيارُ بطلتها المتشظية بطعنات الواقع، ورحى سحق النساء بالاغتصاب في أحداث الثورة السورية، والعادات التي تجبر الأهل على وأد بناتهم بزواجات المصالح وخوف الفضائح، ونذالات الأزواج الذكوريين التي تتجاوز سحق شخصية الأنثى إلى القتل. مع وقوع هذه البطلة المعرضة للسحق في الذهان ونهش الكوابيس، وأمراض الروح التي تصرخ مترجمة ألمها من خلال جسدها، بالإضافة إلى روحها الشفافة التي لا تجعلها أسيرة الحب فحسب وإنما توقعها كذلك في مرض العشق. ويبرر التداخل الغني نفسه وبالأخص ما يتعلق بالثقافة من خلال موهبة وثقافة البطلة نفسها كفنانة ومثقفة تصل في سعيها للتشافي إلى قرارها وفعلها بكتابة روايتها «سلّم إلى السماء» التي هي رواية تريسي بسرد بطلتها حكايتَها.
ولم يكن عبثاً في تأكيد تريسي على الترميم أن يأتي تقديم بطلتها شاملاً لغاية التشافي بالفن من خلال توليد طاقته التي تقود التشويق إلى تجْلِيَة غوامض ما حدث، وبالشكل الذي يدفعها إلى خلق التناغم بين تكوين بنية روايتها وتداخل الأزمنة في سردها مع طبيعة بطلتها الذهانية، من أجل دفع الرواية للارتقاء إلى مستويات مرموقة في الرواية الحديثة:
«فاحت رائحة الدم قرب أنفي، ورأيت لينا ممددة على الرصيف وقد غطتها أمي بشرشف وردي بانتظار قدوم الطبيب الشرعي، ما لبث لونه أن أصبح أحمر قانياً، رأيت جانب وجهها الشمعي، حين أزاح الهواء الشرشف قليلاً، كانت تحدق في وجهي.. سمعتها تهمس: «احذري».. لم أعرف مم كانت تحذرني بالضبط. تذكرت تحذيرها ذاك حين رأيت تلك النظرة الحاقدة في عيني زوجي ذلك المساء بعد معرضي في السفارة الفرنسية، وبعد ما كتبته الصحف عن المعرض»… «مزق الجرائد وما تبقى من اللوحات وخلط الألوان بعضها ببعض، وخرج من البيت. عاد في ساعة متأخرة من سهرته مع أصدقائه الأجانب وهو سكران. أغلقتُ باب غرفتي من الداخل، وسحبت السرير، وجلست أرتجف في العتمة.. حين ملّ من الشتائم، خبط الباب بقبضته وانسحب إلى غرفة النوم. حدقت في الألوان التي امتلأ بها الوعاء، لم أشعر بيدي التي أمسكت بالفرشاة… كان هناك شيطانٌ يمنحني القوة والهمة ما جعلني أعمل ساعات طويلة، أجمع حطام الزجاج وما تبقى من الزيوت العطرية، وأرسم حقلاً من الخزامى والأقحوان والحَنون، أرسم أفقاً أزرق، أرسم زهرةً غريبة. ما أعيه جيداً أني كنت أرسمني كما أتمنى أن أكون. أرسم ماضياً ومستقبلاً».
في سرد حكايتها، المتشظية من غير ترتيب زمني إلى ما يتلملم في نهاية الرواية بذهن القارئ من قطع زجاج مآسيها، ووفق التماثل مع ذهانيتها وصحوها وتداخلات مقاوماتها للانسحاق من قبل الزوج، والتعرض لأهوال الهجرة مع المهربين إلى ألمانيا، والهجرة المعاكسة مع المهربين كذلك إلى سوريا، وذكريات حبها وفقدها التي تحتل محور الرواية، يمكن للقارئ إيجاز الحكاية نفسها بـالفتاة الحالمة الموهوبة بالرسم هيفين، التي تحب صديق طفولتها بدر وتنمو معه إلى اللحظة التي يوشك فيها الحب أن يكتمل في سنتها الجامعية الأخيرة. لكنها تُصدم باغتيال أختها لينا التي تزوجت حبيبها وعاشا في السعودية، أمامها خلال إجازتها، من قبل عاشق هددها بالقتل إن تزوجت غيره. وتضطر هيفين تحت ضغط العادات أن تتزوج زوج أختها لترعى ابنتها، وتُفاجأ بقسوة وعنف هذا الزوج وغيرته من نجاحها إلى درجة محاولته سحق شخصيتها، فتهرب مع حبيبها السابق إلى تركيا، ومن ثم تعيش معاناة السوريين الرهيبة في رحلة لجوء مريعة معه تنتهي بغرقه على شواطئ جزيرة كيوس اليونانية، وفي تداخلات ذكرياتها خلال هذه الرحلة ورحلة العودة المعاكسة إلى سوريا بعد غرق حبيبها، وعدم قدرتها على تجاوز مأساتها في بلد اللجوء، بالإضافة إلى مقاوماتها. تكتشف ويكتشف القارئ معها بعد الوصول إلى عزلتها وتشافيها حكايةً أخرى مغايرةً صادمة عن القاتل المفترض الذي يرافقها في رحلة اللجوء. وترسم تريسي من خلال أوديسا هذه الفتاة، المأساة السورية خلال الثورة مع الغوص عميقاً بهذه المأساة إلى جذورها فيما يكتنف المجتمع السوري والشخصية السورية من خراب، وتحافظ في كل هذا على صراط الحب الذي لا تحيد عنه الرواية، ويرسم شخصية الحبيبين بما يمكن اعتباره قصة حب مميزة، وإن زادت فيها فلسفة الحب بحوارات الحبيبين في بعض المواضع على حساب عرضها في صور ومواقف، بما يفصح عن بعض ارتباكات مطابقات الواقع والخيال والتركيب، وبما قد يُشعر القارئ بالبرود. ولكن ربما يبرر هذا بمعالجة الروائية لحالة امرأة منكوبة تحاول لملمةَ فقدها من أنياب الغياب، وبالشغل على بلورة طبيعة الحب في الجنسين، وهو مميز حقاً بابتكار تريسي لسلّم الرجل الأحمر، وسلّم المرأة الأبيض إلى سماء الحلم البسيط ببيت في الجبال فيه حديقة خضراء بأشجار، حافلةٌ بفاكهة وخضار، وعابقةٌ بأزهار، مثلما هو مميزٌ بجرأة تصوير عشق المرأة ومرضها بالعشق الذي يقتصر بالتصوير عادةً على الرجال: «كيف بكَ إذن وأنت تريدني أن أقبل فكرة إقدامك على الفعل ذاته؟ كثيراً ما فكرتُ بزواجكَ! وتساءلتُ عما شدّك إليها! كيف أحببتَها؟ كيف ارتبطت بها برباط مقدس؟ دوختني الأسئلة كثيراً، وعلى مدى سنواتٍ كنت أرجو أن أشفى من إدماني بك.. قال لي الطبيب: يحتاج العاشق عادةً إلى ستة أشهر لكي يسحب من جسده مادة الأندروفين المسببة لحالة الإدمان العشقي».. لكني ــ بعد سنوات ــ اكتشفت أني لم أشفَ، وأن الحب الذي رجوت الله أن أخرج منه بأقل الخسائر قد تحول في جسدي إلى مرض لم يستطع الأطباء توصيفه أو معرفة أسبابه».
في متابعة هذه الأوديسا غير الخاضعة لتسلسل زمني تُكوّن تريسي روايتها في بنية ظاهرةٍ من ثمانية فصول: (سيلفغيزو غيتي 25 ــ 1 ــ 2015، باب الهوى 2015، غرباً نحو الحرية، اليونان الأحد 14 ــ 9 ــ 2014، سلم أحمر، سلم أبيض، لاكورونيا 2015، حرية بنكهة الفقد). وتضع لها منظومة سرد تقتصر على السرد الذاتي من بطلتها، بالحديث عن نفسها والآخرين، وبتوجيه خطابها عندما يتعلق الأمر بحبيبها الغائب إليه، في إحساسٍ واضح بمحاولتها لملمته من أبعاد الغياب.
في البنية العميقة للرواية، وفيما هو واضح من عرض مأساة التهجير واللجوء السورية بأبعادها الإنسانية التي يدخل فيها بصورة مؤثرة تضامن الشعوب وبالأخص اليونانيين مع اللاجئين السوريين، إلى جانب خذلان دول أخرى لهم، يكتشف القارئ بالنسبة للمعنى كسر الرواية لثنائية الأسود والأبيض بالنسبة للثورة، والغوص عميقاً في بنية المجتمع السوري التي تولد الاستبداد، وبالنسبة لفن الرواية ما سبق تقديمه من اتجاه ترميم الذات إضافة إلى ما يمكن اعتباره جزءاً جوهرياً من هذا الترميم. ويلمسه القارئ بقوة في تشكيل الرواية كحديقة أشجار ونباتات وأزهار وحيوانات وطيور تتفاعل مع بطلة الرواية، مع إغناءٍ في تعريفها بهوامش، لتعميق فعلها في ربط القارئ بتفاصيل طبيعة مكانه، وإثارة تمسكه به من خلال وخز ذاكرته بالأشكال والألوان والروائح، بدراية تتعدى بَلْسَمةَ الجسد إلى جبر الروح، وإطلاقها.
ابتسام تريسي، روائية سورية خريجة كلية الآداب، قسم اللغة العربية، جامعة حلب، عضو هيئة تحرير مجلة «أوراق» الصادرة عن رابطة الكتاب السوريين. لها العديد من الأعمال الأدبية وحازت مجموعتها القصصية «جذور ميتة» على الجائزة الأولى لمسابقة سعاد الصباح عام 2001، ودخلت روايتها «عين الشمس» القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2010.

ابتسام تريسي: «سلّم إلى السماء»
دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، الدوحة 2019
196 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية