قاتل وقتيل، يتناوبان أدوار السرد ليكشفا ماهية الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية التي صنَعَت شخصيتيهما، وأوصلتهما إلى اللحظة الفاصلة التي تمت فيها مواجهتهما لبعض، وتم فيها إطلاق القاتل لرصاصته في رأس القتيل:
لحظة قمع اعتصام الربيع العماني في الأول من إبريل عام 2011.
وكما يحدث في فنّ “التعويب” العماني الغنائي المنقرض، الذي كانت تؤديه النساء العمانيات خلال رعيهن للغنم أو الاحتطاب، من دون أية آلة موسيقية؛ بأن تقوم امرأة وحدها أو امرأتان بتبادل أدوار غناء “التعويب”، للترويح عن النفس خلال العمل، أو لتوليد الذكريات بشجنٍ يغلب عليه الحزن… كما يحدث في هذا الفن؛ يقيم الروائي العماني سعيد سلطان الهاشمي، روايته الأولى “تعويبة الظل” وفقاً لطريقة أداء “التعويب” من شخصين، ولكنْ بحِرَفية فنّ الرواية التي ترتقي بالأداء إلى بنيةٍ روائيةٍ ذكية، تحمل أغراض الرواية في مستوياتها بحنوّ، وتُحلّق بها إلى الآفاق التي تلمس شغاف قلب القارئ، وتدفعه للتفاعل مع هذه الأغراض بقوة.
الغرض الأساسي الذي تصرّح به الرواية في مضمونها، ويأخذ مكانة المحور فيها، هو ضرورة إحياء الذاكرة التي يلبيها خالد، بتأثير كلمات الناشطة الباهية له، في تلك الليلة القمرية الباهرة: “انظر حولك يا خالد، تأمّل فيما يحيط بك من بشر وحوادث، إن كلّ ما تراه العين الآن سيُطوى بعد حين، وسيصبح أثراً بعد عين، الجماهير لا ذاكرة لها. الكتابة يا خالد هي الذاكرة، وكلّما كتبنا كلما قدّمنا أعظم خدمة لأنفسنا وللأجيال المقبلة. علينا أن نوثّق حياتنا بالكتابة لكيلا نكرّر الأخطاء ذاتها التي وقع فيها أسلافنا، عندما حلموا بالتغيير، وساروا إليه، لكنهم انشغلوا بالميدان وتركوا التوثيق والتأريخ والكتابة عن كل تلك اللحظات المكتنزة بالأحلام، فتركوا هذه المهمة الخطيرة لخصومهم الذين لم يفوّتوا هذه الفرصة، فانتصر الخصم مرّتين؛ الأولى في الميدان، والثانية في الذاكرة”.
الأغراض التي لا تقل أهمية عن غرض إبقاء الذاكرة حيّة، تكمن في البنية العميقة للرواية، والتي يأخذ فيها السرد مكانة أكسير التغيير داخل القارئ، سواء من جهة عرض المسجّل القتيل خالد للحوارات بين الأصدقاء الشباب الثلاثة: المعارض “راشد البسام”، والموالي “مانع حنظل”، والمسجّل القتيل “خالد الزاهي” نفسه؛ بحيادية تسجيل الآراء التي تكشف صوابها من خطئها الأحداث التي جرت؛ وسواء من جهة سرد القاتل نفسُه لحياته وللظروف التي أوصلته إلى أن يكون جندياً في جيش النظام، وأداةَ قتلٍ يندم على عدم انتباهه لاحتلالها جسده وروحه؛ من أجل نشر الوعي لدى أدوات وموالي أنظمة الاستبداد، بما انتهك أجسادهم وأرواحهم وانصاعوا إلى أن يكونوا عبيداً له، وذلك بتحليل عميق للشخصيات، لم ينج بسبب شائكيته من بعض ميكانيكيات التحليل النفسي للنماذج، والتي غالباً لا تتطابق في الحياة بسبب عمق محيط النفس البشرية وحساسيات خصوصياتها وتحولاتها. كما لم ينج من اختلاف حول منح الكاتب لشخصياته أسماء تتماشى مع طبيعة الخير أو الشر أو الحيرة بينهما داخل هذه الشخصيات، فاسم الشهيد الذي انضم إلى الحق والاعتصام هو خالد الزاهي، واسم الجندي الذي أدرك ما يفعلونه من مسخ لإنسانيته هو يقظان حميد، مقابل الجندي الذي مسخت شخصيته مكتوم الحلزوني؛ واسم الجد الطيب غريب الأطوار في عشيرته هو غريّب مقابل اسم ابنه الشرير الذي رهن نفسه للولاة مرهون الحلزوني؛ واسم الشاب المعارض هو راشد البسّام مقابل الموالي مانع حنظل، في إشارة لقوى الممانعة التي وقفت ضد ثورات الربيع العربي؛ واسم المرأة العمانية التي أدركت معنى حريتها فسمت جمالاً حراً هو الباهية، صنو بهاء المرأة العمانية الكريمة الحرة.
وما يعمّق هذا الاختلاف في إسباغ الأسماء الخيرة والشريرة على الشخصيات وفقاً لرسمها، في ظلّ غرض الرواية من إحياء الذاكرة صوناً للحقيقة، هو ما ينتجه الواقع من شخصيات شريرة لم تؤثر بها أسماؤها مثل اسم حسني مبارك الذي أشاع البشاعة ورحلت البركة عن مصر بعهده، وعبد الفتاح السيسي الذي كتم أنفاس مصر، وحافظ الأسد الذي لم يحفظ عهداً ولا أرضاً، وكان جباناً لا أسداً في جزره لشعبه، وفي تخلّيه عن أرض الجولان السورية لإسرائيل، وعن لواء الاسكندرون لتركيا، غير أن هذا الإسباغ يجد من يدافع عنه ومن يبرره في إبداعات الفن الروائي.
من أجل تحريك أغراض روايته بفعالية، أبدع سعيد الهاشمي بنية روائية مثيرة للإعجاب، سواء من جهة تشكيلها الهندسي الظاهري، أو من جهة عمقها الذي يخفي أسرارها، وتشابكها الناجح مع أغراضها.
في البنية الظاهرة وضع الكاتب روايته في أربعة فصول على التوالي تحت عناوين: (نهاية اسمها مكتوم ــ بداية اسمها خالد ـــ الزاهي يروي حلمه الأخير ـــ الحلزوني يبعث من جديد). وأدخل أربعين “تعويبة” روائية أو سرداً متناوباً بأرقام بعد الفصل الثاني، بين الجندي القاتل مكتوم الحلزوني، والشاب خالد الزاهي الذي كان يبحث عبثاً عن وظيفة، وتحوّل إلى ناشطٍ في ميدان الاعتصام. وختم الكاتب فصوله بمُرفق سري وخاصّ تمثّل في رسالة مرفقة مع مغلف الرواية، إلى الدار الناشرة، وتضمن توضيح مُسلّم الرواية حول وصية مرسلها، وجَعَل الدار بذلك أحد أبطالها.
وفي البنية العميقة، مع جعله السّردَ بطلاً، بما يحمل من تسجيلٍ يحفظ ذاكرة ما حدث للأجيال، وبما يولّد من تأثير لدى القارئ، نجح الهاشمي كما يبدو في إقامة الافتراقات واللقاءات والتشابكات التي يصعب إيجاد المخارج لها في عالم الرواية المعقّد. كما نجح في إيصال جريان هذه التشابكات إلى اللحظة الباهرة في وضع القاتل والقتيل لمذكراتهما لدى شخصية “أبو الخرز”، الطيب الموثوق المعارض الجريء في الحي الذي يسكنه خالد، و”الأستاذ بديع” الذي كان أستاذاً للطفل مكتوم، وتحوّلَ إلى المشّرد المجنون أبي الخرز بعد سجنه والإساءة إليه من تلاميذه والمخابرات وأهله، لأنه حاول تعليم تلاميذه معنى الحرية والعدل والعدالة، وعرفه الشرطي مكتوم خلال إحدى مهماته المخابراتية، فأثار ذكرى إعجابه به عندما كان طفلاً، كما أثار ندمه على عدم قيامه بأي فعل تجاه ما جرى له.
وفي هذه البنية تجدر الإشارة إلى جهود الكاتب وبحثه العميق في متابعة التغيرات الضارة التي قادها الفاسدون على الاقتصاد والمجتمع العماني، بدون مراعاة خصوصية البيئة حيث تم تدمير الزراعة، وإشاعة البطالة، وتحويل سكان الجبال الرعاة إلى أداة قمع بيد السلطة للمجتمع. كما تجدر الإشارة إلى تتبع الكاتب لجذور وأفرع الخوف التي تُحوّل الناس إلى عبيد: “وبعد أن كانت الطبيعة هي سيدة قراراتهم، يتصالحون مع منطقها، صار المال هو السيّد. يطيعون من يمتلك المال طاعة العبيد. ويسعون مع عادة الاستهلاك… كان الكبير كبير العقل، والمستعد للتضحية، فيحترمه الجميع عن حب لا عن خوف. أما اليوم فقد صارت السيادة تقوم على الخوف. من يمتلك وسائل التخويف وحوادث الرعب في القلوب يسود”.
في ختامه البوليسي، بالحدث الذي ترتكبه مخابرات الأنظمة العربية غالباً، حيث يتم العثور على أبي الخرز مهشّم الرأس، من جراء كلامه الجنوني العلني، وربما من اكتشاف حيازته لمذكرات القاتل والقتيل التي تكمن فيها حقيقة ما جرى من جريمة فض اعتصام ربيع عمان، يوصل الهاشمي بنية روايته إلى اكتمالها، في نجاح أبي الخرز بإيصال الرواية أو الحقيقة إلى النشر والبقاء، ويوصل قارئه إلى ضرورة تعلم الدروس مما جرى، ووعي خداع الأنظمة، وأساليبها في تحطيم ثورات الربيع العربي، من داخلها بدس المأجورين، ومن خارجها بقوة الإرهاب، وقوة الأسلحة، اعتقالاً وقتلاً وسحلاً للمتظاهرين.
سعيد سلطان الهاشمي: “تعويبة الظل”
دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 2018
286 صفحة.