رواية «الكونْتيسة»… من الغرائبي إلى الواقعي

رواية «الكونْتيسة» للروائي المغربي المقيم في هولندا مصطفى الحمداوي، الصادرة مؤخرا عن دار فاصلة للنشر، نص ماكر للغاية. فهو يبدأ بتصور خرافي للوقائع وينتهي شيئا فشيئا بتفسير منطقيّ لها. وذلك جوهر النص الغرائبي بامتياز. إذ تتأسسُ الفنية السردية للكونتيسة على استلهام أهم أحداثها وأبطالها، من مرجعية أسطورية مغربية من جهة، ومن عالم الفن التشكيلي من جهة ثانية، ومن الواقع في أدقّ تفاصيله من جهة ثالثة. وبين كل تلك العوالم، تتسارع الأحداث في خط زمني متصل داخل فضاءات متعددة، ومن خلال شخصيات متنوعة الانتماءات الاجتماعية والبنيات السيكولوجية.
ليست هذه أول مرة يكتب فيها الحمداوي نصّاً على خلفية مرجعيات سابقة. فقد فعل ذلك في رواية «ظل الأميرة» الحائزة جائزة كتارا 2016، حين استند في خياله الروائي إلى تاريخ الصراع بين الرومان والأمازيغ في شمال افريقيا، مُدعّماً إيّاه ببعض العناصر الأسطورية، ومقاطع شعرية للشاعر الروماني أوفيد. لكن الجديد في رواية «الكونتيسة» هو المزج بين الغرائبي والواقعي قبل الحسم بينهما تدريجيا، عندما ينحسر الأول تاركا للثاني فك ألغاز الأحداث والشخصيات.
ينبني هذا النص الروائي على الحكاية الشعبية الأكثر رواجا في المغرب: عيشة قنديشة (عائشة القديسة) التي تمثل في المخيال المغربي ذلك الكائن الأنثوي الذي يجمع بين المكر والجمال الساحر من جهة، والإنسان والحيوان من جهة ثانية. والحقيقة أن النص هنا ليس هدفه إعادة صياغة الحكاية في قالب روائي، ولا الاستناد إليها لخلق حكاية مماثلة، كما قد توهِمُنا فصولُه الأولى، بل يستعير منها وجه عائشة القديسة، كما يتصورها الوعي الجمعي في المجتمع ويوظفه في رصد مظاهر وخفايا واقعٍ إنساني أوْسَع مُنشطرٍ بين الرغبة في قيم الجمال العليا ـ والمثالية أحياناـ ومواجهة أشكال الحياة اليومية السائدة التي يتشكل أغلبها على النقيض مما هو جمالي وكوني وإنساني.
إن الحكاية باختصار هي، انتقال السارد للاشتغال في مدينة إفران المغربية كمهندس زراعي مختص في التطهير الكيميائي لأشجار غابات الأطلس، وتخليصها من الدودة الجرارة. وفي الطريق إلى عمله فجرا يحدث له أحيانا أن توقفَهُ في أحد منعرجات مدينة أزْرو امرأة «ذات جمال جحيمي ماحق»، فتركب إلى جانبه بدون أن ينبس أحدهما للآخر بكلمة، وتطلب النزول دائما في النقطة نفسها في الطريق. غير أن الراوي/سمير يقع شيئا فشيئا أسيرَ حُبّ هذه المرأة التي لا تشبه امرأة أخرى، غير تلك التي تتربع على عرش لوحة كبيرة وراء الكونتوار في حانة الكذابين، التي يرتادها كل مساء. وهي اللوحة نفسها التي يجلس قبالتها صاحب الحانة (السيد موحا) مُتأمِّلاً إيّاها بشغف وحزن من الصباح إلى المساء.
من هنا يتناسل الحكي وينساب دقيقا ومُفعَماً بالأحداث والشخصيات، التي عرف الكاتب نسج الروابط بينها بشكل تدريجي، ليرفع من حدة التشويق ويجعل كل أحداث الرواية رهينةَ برنامج سردي عامّ هو، علاقة الشبه بين هاتين المرأتين/الأسطورتين: امرأة الطريق التي يظن الناس أنها عائشة القديسة والمرأة/اللوحة (الكونتيسة كارولين أودران) التي رسمها فنان تشكيلي مغربي في عزّ شبابه وبدايته الفنية. يتجلى الشبه الأساسي بين المرأتين في ذلك الجمال الساحر، الذي يأخذ بألباب وعقول الرجال، ثم في طريقة مشيتهما (مشية الحمامة) ثمّ، وهذا هو الأهمّ، في اختفاء كلٍّ من عائشة القديسة وكارولين أودران في غابات الأطلس. ومثلما يَظلّ صاحب الحانة غارقا كل يوم في جمال الكونتيسة متأملا إيّاها بحزن وتحسّر وصمت طوال الوقت، يركن الراوي إلى انجذابه الغامر بجمال امرأة الطريق، التي لا يعرف إن كانت هي عائشة القديسة أم بطلة اللوحة ذاتها لكثرة التشابه بينهما:»إنها هي…تقريبا…هي تقريبا». «إنني التقيت صدفة الكونتيسة كارولين أودران… حدث ذلك صدفة…نعم صدفة».
ولعل ما جعل الراوي يتأرجح بين الواقع والخيال، أن الكثير من الوقائع تتظافر وتأخذ بعدا غرائبيا، منها أن الراوي يتلقى في بيته رسائل من مجهول يَعِدُهُ في كل مرة بلقاء قريب، ومنها أيضا أنه سيكتشف عن طريق صاحب مقهى مُجاوِر أن البيت الذي يَسكُنه ليس مَصدَرَ أمان، لأنه «مسكون بروح الكونتيسة كارولين أودران»، التي كانت تقطن فيه خلال إقامتها في إفران. ومن عناصر تلك الحبكة ذات المنحى الغرائبي أيضا، هو أنّ العديد من الزبائن الذين يرتادون حانة الكذابين (وربما هذا هو السبب في غلبة هذا الاسم على اسمها الرسمي: حانة الأطلس) يُخفون هويّاتهم الحقيقية وراء أقنعة، أو يحملون أسرارا وألغازا ظل بعضها غامضا حتى آخر سطر في الرواية. لكن الذي يجمع بينهم جميعا هو اهتمامهم كل بطريقته الخاصة بلوحة الكونتيسة خلف الكونتوار، بما في ذلك كريم الرغاي، الذي يتجاهل النظر إلى تلك اللوحة، لكن حين يَشرَع في سرد تفاصيل حكايته للراوي، نُدرك مدى الأهمية القصوى لوجه الكونتيسة/عيشة في حياته مُقيماً ومُغترباً.
ولعل من أهمّ الجوانب التقنية التي أعطت لهذا العمل الروائي بُعدا فنيا كبيرا هو الجمع بين شخصيات مختلفة الأطوار والثقافات والأعمار والفئات الاجتماعية والمهنية، لكنها تتشابه عندما يتعلق الأمر بمسألتي الحب والجمال، أو عندما تربطها بلوحة بالكونتيسة كارولين أودران ذكريات وأسبابٌ ما. فشخصية مايكل ماسون (الأنكليزي الذي يحبّ تشرشل ويقلده في هيئته وملابسه) يرتاد الحانة طمَعا في سرقة نسخة من لوحة الكونتيسة رسمتْها بدقة فنانة سنغالية أتى بها صاحب الحانة خصيصا لذلك، وشخصية كارمن لودفيج، التي تَدخُل الحانة في التاسعة ليلا وتجلس إلى طاولة «وتنظر في اتجاه الجدار، وتَظلّ على تلك الحال إلى غاية منتصف الليل»، ثم تُدخّن الحشيش وتتناول وجبة العشاء وحيدة ولا تُكلّم أحدا. وحين تدق الساعة منتصف الليل تماما، تغادر كارمن لودفيج الحانة في اتجاه غابة الأطلس، حيث تلتصق بشجرة «كورو» المعروفة وتحضن جذعها وتحدّثها كما تُحدّث ذَكراً، وتذرف دموعا غزيرة.

«الكونتيسة» رواية عن الحب والجمال والفنّ والإنسان بأخطائه وهشاشته وصدقه وكذبه وعشقه وأوهامه. إنها رواية البحث عن الكمال في عالم تسود فيه المناورات والدسائس والمصالح الشخصية.

من هذه الشخصيات الغريبة الأطوار أيضا شخصية كريم الرغاي، الذي كان مديرا لمعهد موسيقي في الدار البيضاء، قبل أن يكتشف لدى صديقه الرسام جمال المشرقي ذات ليلة تلك اللوحة، التي تهيأت له فيها عيشة قنديشة وهي تطلب الزواج منه أو الرحيل فورا إلى ما وراء البحر. هكذا سيغادر المغرب إلى إسبانيا حيث سترمي به الأقدار مرة أخرى بين يدي امرأة تمارس الرسم، وتتّهمُه بأنه السبب في انتحار ابنتها مارْتا، قبل أن تختار لنفسها المصير نفسه. هنا أيضا تتشكل غرائبية الأحداث، انطلاقا من الأداة نفسها، أي من خلال اللوحة، كتجسيد حيّ لشخصية بعينها: فكريم الرغاي يهرب من عيشة قنديشة وصورتها وصوتها، الذي يخرج من إطار اللوحة، لكنه يلقى وجه مارتا في لوحة أخرى بابتسامتها التي «تحمل عتابا قاسيا» تجاهه، كما لو أنه كان السبب في انتحارها فيتأكد له حينها أنه لم يتخلص بعد من ملاحقة طيف عيشة قنديشة له: «واستبدّ بي يقين، وكأنها تحولت إلى عيشة قنديشة تطاردني». وحتى عندما عاد كريم الرغاي إلى المغرب، لم يستطع الفكاك من هاجس عيشة قنديشة/مارتا/ لأن اختياره الإقامة في إفران يعود إلى اكتشافه مُصادفةً لوحة الكونتيسة في حانة الكذابين: «دخل الحانة مرة، خلال زيارة عابرة إلى المدينة، فصعقته لوحة الكونتيسة كارولين أودران، المعلقة خلف الكونتوار. نظر إليها قليلا، وصرخ بهلع: عيشة قنديشة! إنها عيشة قنديشة… إنها هي». هكذا يتمدد طيف عيشة قنديشة ليجد له صدى في كل امرأة جميلة وغريبة واستثنائية. إن حكاية كريم الرغاي هي في الحقيقة الصورة الأخرى لحكاية الراوي الذي يعترف منذ البداية بأنه سيعيش «على إيقاعها لياليَ كثيرة».
وتأخذ الرواية بُعدَها الفني أكثر وهي تستدعي إلى فضاء الحانة الزاخر بالأعاجيب ثلاث شخصيات أخرى لا تقل غرابة، لتؤثث لمسارات حكائية موازية مع الحكاية الرئيسية، ولتلتقي معها في نهاية المطاف عند الحمولات الدلالية المشتركة للنص. ذلك أن عبد السلام العسكري، سيغادر منصبه ضمن القوات المساعدة نتيجة حبه لإسبانية كانت ترتاد الحانة، وظل يحلم بإنشاء مزرعة مختصة في إنتاج بيض دجاج ذي صفارين، والبشير أمغار الذي كان حارس غابة سابقا، يغادر منصبه لينكبّ على لعبة الشطرنج داخل الحانة مُفضّلا أن يلعب ضدّ نفسِه طيلة الوقت، مُتنقِّلا من جهة إلى أخرى حول رقعة الشطرنج، غير آبه بنظرات الزبائن المندهشة أو الساخرة. أما الشخصية الثالثة فتظهر وتختفي سريعا في الرواية، تاركة خلفها ألغازا وأسرارا لا يعرفُ بعضَها غير صاحب الحانة. إنها آيشا ساديو، «فنانة سينغالية، ورسامة فطرية مذهلة» يستقدمها صاحب الحانة لرسم الكونتيسة/عيشة قنديشة تماما مثلما يراها الراوي، إثر لقاءاته بها في منعرجات أزرو. ستقوم بهذه المهمة في ليلة واحدة داخل «متحف الفوضى» في الحانة معتمدة ليس فقط على موهبتها واحترافيتها الفنية، بل كذلك على تراتيل وخلوة صوفية وإجهاد نفسي يُفقدها في آخرِ مهمتها كلّ طاقات جسدها النحيف. هكذا تكون آيشا التي لا يقول السارد شيئا عن اسمها المطابق بالفرنسية لاسم عيشة ـ مصابة هي أيضا بهوس عيشة/كارولين ومتورطة بشكل أو بآخر في نسيج اللغز، الذي لا يلبث يكبر ويتعقّد شيئا فشيئا داخل الحكي.
«الكونتيسة» رواية عن الحب والجمال والفنّ والإنسان بأخطائه وهشاشته وصدقه وكذبه وعشقه وأوهامه. إنها رواية البحث عن الكمال في عالم تسود فيه المناورات والدسائس والمصالح الشخصية. لقد عهدنا في أعمال الكاتب مصطفى الحمداوي السابقة تركيزه على الحدث وإمساكه بخط زمني متصاعد في الحكي، وهما ميزتان أيضا في رواية «الكونتيسة»، لكن الذي يميز هذه الرواية عن غيرها هو شدّ القارئ إلى عوالم تجمع بين الغرائبي والواقعي، يختفي فيها الأول تدريجيا وبشكل فني ماهر ليفسح المجال واسعا للثاني: إن أحلام الشخصيات الأساسية في الرواية وأوهامها تنتهي في آخر المطاف بالارتطام عنيفا بأرض الواقع، فتختفي كل تلك الشخصيات أو تموت الواحدة تلو الأخرى من جراء الفجيعة والخيبة والهزيمة. ولعل الوحيد الذي ينجو بجلده ويخرج منتصرا في النهاية ـ على نفسه، يا للغرابة! ـ هو لاعب الشطرنج البشير أمغار الذي كان طيلة الوقت لا يُنازل إلا نفسَه، مجسِّداً بذلك إحدى الدلالات الرمزية العميقة لهذه الرواية، وهي أن أنبل صراع هو صراع الذات مع نفسها، من أجل تطهيرها من الكذب والشر والحسد والوهم، أيْ من كل ما أَوْدى بحياة الآخرين الذين أفْنوا عمرَهم مُطارِدين شبح امرأة لا توجد إلا في الخيال.

٭ شاعر وأكاديمي مغربي مقيم في فرنسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية