رواية «المغاربة» أوالجلسة السردية المريحة

لم تخرج رواية «المغاربة» للروائي عبد الكريم جويطي عن الخط السردي، الذي رسمه المؤلف لتجربته في الكتابة السردية، منذ روايته الأولى «ليل الشمس» مرورا برواية «زغاريد الموت» و«رمان المجانين» و«الموريلا الصفراء» و«كتيبة الخراب» وصولا إلى «المغاربة»؛ هي الميزات ذاتها تحكم صيغة الكتابة عند هذا الروائي، لا تغيير إلا في امتداد النفَس، وعمق التجربة وترسيخ الرؤيا؛ وهو ما يعني أن الكتابة الروائية عنده مشروع متكامل، وفق رؤية تنظيرية، تسبق ممارسته لفعل الكتابة والإبداع.

مرونة السارد

تتسلسل الوقائع في رواية «المغاربة» بنوع من المرونة، وفق سرد خطي منطقي، لا تكسره إلا فواصل تاريخية مقتطفة من متون كتب تاريخ المغرب؛ والميزة الأساس في هذا التسلسل تبقى مرونة السارد، الذي أوكل إليه الكاتب مهمة السرد في الرواية، إذ يتخلى عن المهمة، دافعا بها إلى شخصية أخرى مشاركة في الأحداث، هي شخصية «العسكري» الأخ الأكبر، والمساند، للشخصية الرئيسية «محمد الغافقي» وكون «العسكري» مشاركا، وكونه قريبا من الشخصية الرئيسية، يجعل عملية تحويل دفة السرد مُبررةً، تتسم بالسلاسة والليونة، لا يشعر معها القارئ بأدنى تشنج ذهني يُعيق مواصلة تتبع الأحداث؛ تقنية تبئير داخلي تنقل الأحداث من على لسان وتفكير «محمد الغافقي» باعتباره شخصية محورية تستحوذ على إدارة دفة السرد، إلى لسان «العسكري» وهو يحكي عن وقائع حرب الصحراء.

بني ملال: الفضاء واللغة

وظف الروائي فضاءات واقعية ترتبط بمدينة بني ملال، إذ تتراوح أحداث الرواية بين القصبة وتمكنونت وساحة المسيرة، وهي تشكل التراث المادي للمدينة؛ وفي تقديري، حين جعل الروائي من بني ملال فضاء لأحداث رواية «المغاربة» إنما هو احتفاء بها، أولا، ورغبة في توقيع الرواية ببصمة خاصة ثانيا، وتأكيد أن فضاءاتها قادرة على توليد متخيل سردي يضاهي أسئلة الإبداع التي تولدها المدن الكبرى ثالثا؛ وحتى عندما تحملنا وقائع الرواية خارج المدينة، فإنها لا تأخذنا إلا إلى فضاءات جبال أطلس أزيلال، بمنعرجات طرقها وبيوتاتها البسيطة البناء والمحتوى؛ كما عمد الروائي إلى تضمين الرواية بوحدات وتراكيب لغوية محلية، منها: (سلة القصب، قباب قصبية، السواك والحرقوس، إينور، القطران، السفنج والشواء، الحناء والسباني، أحيدوس وخبط الدفوف، الزلافة المليئة بالحناء، قبطة نعناع، مشاكة، العزافة، مريميدة، الدشيش، الريدو)؛ إنها وحدات لغوية عامية، تنتمي إلى معجم شعبي؛ وكأننا بالرواية تريد أن توثّق هذا المعجم، لتحفظه وما يرافقه من سلوك ضد النسيان والزوال؛ وما اعتبرنا هذا المعجم ميزة، إلا لكونه يحقق الإيهام بواقعية الأحداث، وتم توظيفه بما يناسب سياق الحكي.

الواصف والموصوف

الواصف في الرواية «محمد الغافقي» وهو شخصية مشاركة في الأحداث، أصيبت بالعمى تدريجيا في سن مبكرة، ما يجعل عملية الوصف تقوم على الحدس، تماما كما هي علاقة الواصف الأعمى بالموصوف علاقة حدسية؛ ورغم الظلام الدامس الذي يحيط به، فقد استطاع أن يرسم ملامح هذا المحيط، شخوصه وأمكنته، وصفا دقيقا شمل المظهر الخارجي والنفسي والاجتماعي، من ذلك وصفه لجسد الصبية صاحبة الإنشاد الأمازيغي «تماوايت» ووصف الباشا الصغير، والخبير المكلف بحل لغز المقبرة الجماعية، ومساعده، والعسكري، وقد شمل الوصف جزئيات دقيقة تحدد الأبعاد والأصوات ونوع الملابس؛ ثم الأمكنة، ومنها قصر الباشا وبوابته العتيدة؛ وتعدى الوصف المظهر الخارجي إلى وصف المشاعر والأحاسيس: الحب والخوف والفراغ والانتظار. ولعل ميزة الوصف في الرواية تكمن في أن يكون الواصف أعمى؛ وهنا أود أن أستعير عبارة ديدرو الواردة في متن الرواية، حيث يقول: «العميان أسياد الترتيب» مع تحوير بسيط، لأجعل من «العميان أسياد الوصف» وقد كان الكاتب عبد الكريم جويطي موفقا في ذلك، لأن الوصف ببصيرة الأعمى كان، أو يكون، أكثر قوة وتأثيرا في نفس المتلقي؛ ومن البديهي أن يبسط «محمد الغافقي» كفه على جلّ لحظات الوصف في الرواية، إلا ما كان من وصف حديقة «البوكمازي» وسط رمال الصحراء، وحده وصفها تحقق بعين العسكري.

الإضاءة بمصابيح الأدب والتاريخ

في رواية «المغاربة» يتداخل الأدب مع التاريخ تداخلا منسجما؛ فالرواية جالت بنا في سماء الأدب العربي والعالمي؛ من السياب وطه حسين ونجيب محفوظ والوهراني، إلى هوراشيو وهاملت وشكسبير وديدرو؛ لتنقلنا إلى «هذيانات مغربية» أورد من خلالها الكاتب عناوين مؤلفات تخص تاريخ المغرب، نذكر منها: «الكلاوي آخر سادة الأطلس» لكافان ماكسويل، و«المعجب في تلخيص تاريخ المغرب» لعبد الواحد المراكشي، و«إتحاف أعلام الناس» لعبد الواحد بن زيدان؛ ولم يكن توظيف مصنفات التاريخ توظيفا مجانيا وحشوا زائدا، بل هي إضاءات بينها وبين الرواية علاقة تكامل، وروابط معنى مقصود، بها يمكن القول إن أحداث الرواية امتداد لوقائع المغرب في تاريخه العميق، والرواية، في المقابل، بيان وشرح لوقائع هذا التاريخ. ولا شك أن هذا التوليف بين التاريخ والأدب في ثنايا السرد، قد منح الرواية أبعادا دلالية تقدم الاحتمال وتنفتح على التأويل، وطبَعَها بميسم خاص على مستوى التلقي.

مسالك التصوير

سلك عبد الكريم جويطي في تصوير المشاهد والحالات النفسية سبيلا بلاغيا بديعا، تبدو معه المشاهد لوحة فنية آسرة التشكيل والتنسيق، ترتفع بالقارئ إلى عوالم التخييل وتغوص به إلى عمق المعنى الإيحائي؛ فصورة الجد، جد محمد الغافقي، بقيت «قطعة من مرمر شاحب»؛ وما ولّده صوت الفتاة الأمازيغية من صور، وهي تصدح باللحن العذب المسمى «تماوايت» «ذلك الإنشاد الأمازيغي الذي يتنازل فيه الجبل الغامض المهيب عن كبريائه، صوت القمم العالية، التي تشرئب فيها النفس لتصل إلى الجراح العميقة»؛ وصورة السارد نفسه أمام عذوبة هذا الصوت، يقول راسما صورته: «بقيت مُسمرا وآنية سكب الماء في يدي معلقة وحائرة بين جسمي والسطل. حركة زائدة وسأفسد هذا المجرى السري الذي يوصل لي الصوت نقيا صقيلا، كأنه نداء حياة»؛ وصوت الفتاة ذاته، هو ما يرسم في مخيلة السارد صورا تتقلص بينها المسافات المكانية، رأى في شساعته، هو الأعمى، «بغالا خرافية تصعد مسارب تقود إلى السماء، وماعزا صاخبا يتناثر بين الشجر والحصى، وجسورا للخوف صنعت من جذوع أشجار ميتة»؛ صوت الفتاة الأمازيغية، وتحليقه الذهني، في ما تحيل إليه الصورة نحو براري الأطلس ينعكس في حركة تفاعلاته النفسية، ووصف واقعها المتأزم بين الصبابة والعجز والخجل؛ صور جزئية متهالكة، تتعالق جميعها ضمن صورة كلية، ميسمها الحزن والإحساس بالضياع والعجز والانتظار؛ انتظار الحياة في صورة امرأة، فهل «لهذا الحد الحاجة إلى امرأة عنيفة وآسرة»؟ حاجة ملحة عصية على القبض، تغدو معها المرأة وكأنها «زونداكو»: مثل الدخان.

الإيقاع الموسيقي

لم يعد الإيقاع الموسيقي خصيصة من خصائص الشعر، بل تحول إلى ميزة من ميزات النص السردي؛ من تجلياته في رواية «المغاربة» تكرار الكلمات المتقاربة في بنيتها الصوتية: (تَماوايت، تماوُت، مَوتٌ)؛ وتكرار الأصوات المؤتلفة من حيث الجهرُ والهمسُ: العين في (العمى يجعل المرء عنيدا، العناد صنو العمى)، واللام في (لا ليل لي)، والسين في (نُسود واقعا ليس بهذا السوء الأسود)، والقاف في (الحقيقة القاتلة في قلبي)؛ وتكرار الصيغة الصرفية: (المصلحة تقدس الأحجار والأشجار)؛ والطباق: (قلبك يسبق عقلك). وجليا، يبدو أيضا أن هذه الظواهر، التي ارتبطت بالبنية الإيقاعية الداخلية للنص الشعري، لم تحضر في الرواية لغاية في ذاتها، أو رغبة في التزويق وتنميق الكلام وحسب، لأن توظيفها لم يكن مجانيا؛ إنها ملح السرد، كما كانت إلى عهد قريب ملح الشعر؛ والدليل والبرهان والحجة على صحة هذا التقدير في حق الرواية، هو صحة المعنى وسلامته، حيث ما اختل المعنى بتجانس، ولا تكرار صوت أو لفظ، ولا مجاورة بين صائت وصامت.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية