وصلت الرواية العربية اليوم، في ظل وسائط التواصل الاجتماعي، إلى حالة تستدعي منا تساؤلات عميقة لفهم الظواهر المستجدة التي أصبحت تتحكم، إلى حد بعيد في صيرورتها، وتحتل المشهد الثقافي والحياتي.
هل يجب أن نقف ضد التحولات الروائية بحجة أنها ضعيفة أو لا تستجيب للقانون التعريفي للرواية، أو لكونها ثمرة لوسائط تواصل مهيمنة، جعلت كل من هب ودب يكتب ويدخل عالم الرواية بلا ضوابط، فاختلط الحابل بالنابل؟ ألا يضعنا هذا الموقف الرافض والمتسرع في صف القوى الرجعية المعطلة لمكاسب الثورة التكنولوجية التي تجتاح العالم والتي منحت فرصاً للجميع لكي يجعلوا من التعبير وسيلتهم؟ ألا يحولنا هذا الموقف الرافض إلى مضادين للحداثة في منجزاتها التقنية الجديدة التي تتجاوز معارفنا، وكأنها في النهاية لم تخلق لنا، ولكن لغيرنا؟
المسألة التي نحن بصددها ليست عربية، ولكنها مشكلة كونية، إن هذا التردد لا يلغي السؤال الذي يشغل النقد العربي الذي أخلى مكانه الحقيقي، السجالي، لقوى الهيمنة الإعلامية، وكأن الموضوع لا يعنيه أبداً، أو كأن النصوص التي عليه انتقادها لا ترقى لكي يخسر عليها وقته التحليلي وحتى التأملي. ما هو الوضع الاعتباري إذن لهذه النصوص الأدبية التي حطمت كل حواجز النشر المتعارف عليها ووضعت نفسها في الصدارة كأصوات لها الحق في الوجود؟
مشكلة النقد العربي في عمومه، على الرغم من ثورات المدارس النقدية التي غيرت نظمه، أنه لا يزال يعاني من حالات التردد أمام هذه الحالات الأدبية أو حتى اللأدبية. هناك نمطية تخترق ذهنية النقد العربي لا تزال مستقرة في الخلفية الثقافية للناقد، ولم تحسم قضاياها الإيبيستيمية الكبرى، كما حدث في النقد الغربي. لا تزال رهينة النظام النقدي والفكري الكلاسيكي الذي تربت عليه منذ القرن التاسع عشر ولم تغادره إلا شكلياً، بنية وموضوعات ومدارس. أي أن العقل في بنياته العميقة لم يتغير كثيراً، ولا يزال حالة جامعية مغلقة على نفسها، لا علاقة لها بالمحيط الذي يعيد تشكيلها في كل الأوقات، وإلا كيف نفسر هذا التخلف النقدي في التعامل مع مستجدات الحداثة بالشكل الذي يليق بها بوصفها متغيرات، قبل رفضها، تحتاج إلى فهم مصادرها وآليات تطورها. نحن أمام عصر جارف، وإذا لم يتم التنبه إلى مخاطر الهروب إلى الأمام، سيبدو للأجيال الحالية من القراء والقادمة، أن ما يكتبه آباؤهم هو الطلقة الأخيرة لجيل انتهى فنياً، وبدأ يزحف بسرعة مدوخة نحو الانقراض، لأن العصر الذي يعيشه اليوم تعقد لدرجة أنه أصبح من الصعب عليه فهمه.
لم تعد الظاهرة ثانوية ليمكن التغاضي عنها، لكنها استفلحت واتسعت وأصبحت عربية بامتياز، غير مقتصرة على بلد واحد. كما فرضت نفسها بوصفها جزءاً من حاضرنا الثقافي والأدبي. تحتاج هذه الظاهرة الطاغية اليوم إلى وقفة فنية تدرس نقدياً بعد وضعها في سياقاتها التاريخية والفنية. قد يبدو هذا الكلام استفزازياً من الناحية النقدية، لأنه يحمّل النقد مسؤولية ربما لم يعد قادراً على تحملها. تأمل بسيط يقودنا إلى تسجيل ملاحظات لا يمكن القفز عليها.
تعيش الرواية العربية وضعاً غير مسبوق، من الناحية الكمية على الأقل (1000 رواية تقريباً صدرت هذه السنة 2018-2019). وقبل الخوض في العملية النقدية يجب التفريق بين نوعين من النصوص الروائية التي تحتل المشهد الشبابي اليوم، نوع يدور في فلك الجنس الروائي، وإذا اخترقه يفعل ذلك بوعي لأنه يملك الأدوات المعرفية التي تؤهله لهذا الفعل الذي لا يمكنه إلا أن يكون تجريبياً وجديداً، فهو يكتب داخل النظام الروائي المتعارف عليه من خلال جهد إبداعي مميز وكبير، ولا تعمل وسائل الاتصال الحديثة إلا دور الوسيط التقني الموصل للرواية أو لخبر صدورها وإثارة فضول القارئ الذي كثيراً ما ينشأ لديه أفق انتظار تجاه كاتبه الذي يتابعه، أو كتابه. ويظل في دائرة الأقطاب الذين أسسوا عربياً للنوع، كنجيب محفوظ، وحنا مينه، وعبد الرحمن منيف وغيرهم. ويتبطن الفعل الروائي جهداً معرفياً وثقافة روائية محصنة، وهذا يدخل في الاستمرارية الطبيعية للرواية العربية ويتم ذلك عبر أجيال عربية جديدة.
أما النوع الثاني، وهو مدار حديثنا، فهو أدب الماكينة أو الآلة التي تنتجه وتشيعه وترميه في سوق قرائية افتراضية تميل نحو السهل والمباشر. صحيح أن وراء ذلك كله بشراً يكتبون ويتواصلون بشكل أسهل مع القراء، بل استطاعوا أن يخلقوا منصات واسعة للتواصل وممتدة، يعد قراؤها بالآلاف وربما بالملايين أيضاً. صحيح أيضاً أن مرتكزاتهم ليست دائماً إبداعية، ولكنها تقنية ودعائية، مع ضعف في النصوص، ليس فقط في البنية التي يمكن أن نجادل حولها، ولكن في الأخطاء اللغوية والإملائية التي لا يخلو منها سطر من السطور، وفي غياب كلي للمدقق وللتحرير الذي يشكل حجر الزاوية عند الناشر الغربي. ولكن السؤال المحرج والكبير هنا أيضاً: أليست الدعاية جزءاً من الفعل الكتابي؟ نعجب بالغرب الذي حول الكِتاب مثلاً إلى سلعة استهلاكية ونغضب عندما يأتينا ذلك من محيطنا؟ نعم يبيعون بالآلاف والملايين، أليس هذا نتيجة إيجابية بالنسبة لحركة النص الروائي؟ لم يعودوا حتى في حاجة إلى النقد الكلاسيكي الذي انسحب من هذه الساحة، وعوضوه بعدد اللايكات وأشكال الإيموجي. الكثير من النصوص مثلاً بدأت كمادة «فيسبوكية»، لكنها سرعان ما تطورت بسبب المقروئية الكبيرة، قبل أن تتحول إلى مسلسل يتابعه القراء. وتصل الغواية إلى سقفها، فينشر النص في كتاب يقتنيه آلاف القراء المتابعين. فجأة يتحول النص وبلا مقدمات ثقافية أو إبداعية إلى «بيست سيلر» في المعارض العربية، كل الناس يتحدثون عنه، بل ويبحثون عنه. هل بقي للنقد دور في هذا بعد أن سرقت الوسائط كل مساحاته؟ ألا يمكنه أن يتجدد أو يرمم نفسه بإيجاد سبل جديدة وذكية تضمن وجوده واستمراره؟ فماذا يقول النقد الروائي العربي في كل هذا؟