رواية «برنس شاوي»: الكتابة بهاجس الانتصار للمقموعين

حجم الخط
0

ظلت الجهات الداخلية المهمشة تعاني من تغييب المركز لتاريخها ومشاغلها وثقافتها. فالخطاب السياسي والثقافي والإعلامي يظهر حول المركز ووجوهه المختلفة… ويعتبر هذا العامل من عوامل الاحتقان لدى هذه الجهات وأهاليها، ممن ظلوا يبحثون عن أصوات تنتصر لهم، وتذكر مساهمتهم في الكفاح من أجل الوطن وطرد الاستعمار وتعبر عن مطالبهم التنموية وتهتم بثقافتهم وتراثهم. وقد شهدت السنوات الأخيرة في تونس ظهور أصوات متحررة من قيود المركز، ومشحونة بهموم قراها ومدنها الصغيرة، حاولت التعبير عن سرديات المقموعين والمهمشين والمنسيين.
من بين هذه الأصوات الأديب أحمد مال، القادم من أرياف أم العرائس، إحدى الجهات المنجمية، وتحديدا من قرية الدوارة. وقد شكلت روايته «برنس شاوي» نوعا من الانتصار للمقموعين والمهمشين في هذه الربوع. فهي رواية تحمل هذا الهاجس وتحاول محو التغييب وتسليط الضوء على واقع تلك الجهات، وعلى الأزمنة البعيدة.

مناضلون منسيون:

تبرز في الرواية شخصيات مناضلة تنتمي إلى هذه الجهات، ساهمت في الحركة الوطنية وفي حرب التحرير الجزائرية، ولكنها تعيش في الهامش وتعاني من الإهمال مثل، محمد عامر حارس مدرسة القرية وأخوه الشهيد عياش عامر، الذي «انخرط في التاسعة عشرة من عمره في المقاومة، دون تردد، وتميّز بالمرونة والشجاعة والقدرة على التخفي والتنكر وكان رجل المهمات الصعبة»، واستشهد في معركة الجلاء: «سالت دماء غزيرة من جسد عياش، ولم يكن بالإمكان إسعافه ونطق بالشهادة».
أما محمد عامر فقد أصيبت رجله أثناء المقاومة و»بعد إصابته في ساقه لم يعد قادرا على تجشم صعوبات المهام القتالية في الجبال، وأصبح دوره مساندة الثوار لوجستيا». لكنه يشعر بالإهمال والنسيان، فخيرات الاستقلال ذهبت إلى الآخرين.
«هل كان على محمد عامر أن يصبح معوقا، وأخ شهيد ليرث برنسا شاويا جزائريا؟ وهل كان عليه أن يلاقي يوسف الرويسي والطيب المهيري قبل الاستقلال ليصبح الجموعي سيد البلاد والعباد؟».

الشخصيات المتنكرة:

مقابل الشخصيات المناضلة تبرز فئة الشخصيات الخائنة والمتسلقة، التي خدمت الاستعمار وكادت للوطنيين، ثم استطاعت التنكر وقفزت إلى صفوف السلطة والجاه والمجد. ولعل أمثال هذه الشخصيات يدور في الذاكرة التونسية. فالروايات الشفوية تتحدث عن الكثير من خدم الاستعمار، ممن انقلبوا بعد الاستقلال إلى شخصيات وطنية، ويجسد هؤلاء في هذه الرواية العمدة الجموعي الذي كان يبلّغ عن الثوار وقد اكتسب ثروته من تلك المهمة. فقد أمر له القايد يوما «بمكافأة مالية مجزية نتيجة إبلاغه عن ثوار تموقعوا في الجبل القريب وسرعان ما تحولت تلك الأموال إلى أراض تتعب الفرس السبوق وقطعان غنم وعنز تملأ الآفاق». ولكن الأيام دارت. فبعد الاستقلال «سرعان ما تحول الجموعي قواد فرنسا إلى مناضل تحصل على منحة المقاومين، وسيدا كرمه المجاهد الأكبر بوسام شرف عند الاحتفال بعيد الاستقلال، وصار صاحب نفوذ مطلق وصيت كبير، أما النسبة الساحقة من المقاومين الشرفاء وأرامل الشهداء وأيتامهم فإنهم ظلوا على هامش الحياة».
إنه تناقض تفضحه الرواية بألم، «فهذا محمد عامر يجرجر برنسه الشاوي وذاك الجموعي يصبح من تلك الدائرة الضيقة التي ترسم مستقبل البلاد، وبدأ يستبيح حرم العباد»، ولعل الجموعي يبدو في الرواية مستبدا كبيرا، فهو من افتك الأراضي والنساء وشكل سلطة قامعة للناس.
لا يقف الانتصار للمقموعين عند هذا الحد، فبهذه الإرادة نفسها كتب أحمد مال شخصية عليان الطفل الفقير، الذي عانى الفقر والعراء والتعذيب (من ذلك ما تعرض له عندما قبض عليه في حقل العمدة) ولكنه انتصر وتفوق في دراسته ووصل إلى دروب النجاح.
تلفت قارئ رواية «برنس شاوي» علاقة حب تنشأ وتكبر بين عليان وفادية المعروفة بكونها ابنة العمدة، والحال إنها ابنة شهيد تزوج العمدة أمها عيشة بعد استشهاده. وهذه حادثة رمزية فالجموعي تمتع بما حققه الثوار وما أنجبه الشهداء بغطرسة شديدة. تنشأ هذه العلاقة بداية من طاولة القسم وتتحدى الفوارق الاجتماعية. ولعل هذا في حد ذاته يعتبر انتصارا للهامش المقموع. وهو ما تجسده الصفحة الأخيرة من الرواية التي تدور أحداثها بعد الثورة التونسية، وبعد سنوات من تلك الأحداث التي سردتها الرواية. فتعترف فادية بواقع البلاد وتتهم والدها قائلة: «أنا خجولة مما سببه والدي وأمثاله من خراب اقتصادي وقيمي».
لعل ما أشرنا إليه يكشف هذه الروح الانتصارية تجاه المقموعين والمنسيين وتجاه الهامش الذي يصنع نفسه، ويخوض صراعاته السياسية والاجتماعية، فأحمد مال يستدعي تاريخ هذه الجهات المناضلة وواقعها وعاداتها وثقافتها المحلية ليشكل خطابه الروائي.

٭كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية