تبرز رواية «بقايا اليوم» للروائي الياباني البريطاني كازو إيشيجورو ـ صدرت عام 1989 وترجمها طلعت الشايب- بوصفها أقرب إلى نمط متفرّد في الكتابة السردية التي تتقصد التّركيز على الذات في أزمتها عبر قطاعات من التأويل في ما يتعلق بالمكان والتاريخ، ضمن حساسية مفرطة في الكتابة.
في الرواية – التي تحولت إلى فيلم من بطولة أنتوني هوبكنز- لحظة تاريخية يتملكها نمط ارتجاعي يقوده وعي الخادم ستيفنس، وقوامه زمن الخطاب الذي يعقب الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنه يغادر المبدأ الأرشيفي نحو توليد مزيج من الأفكار والمشاعر والدلالات، التي تبقى في سياق محبوك لا تتجاوز التعرية والكشف؛ بمقدار ما تُعنى بالتورية، والتلميح لتقترب من ظلال الأفكار، كما المشاعر والقيم والصراع… والأهم رؤية العالم ضمن وعي الخادم (ستيفنس) الذي يعمل في قصر اللورد «دارلنجتون»؛ السيد البريطاني الذي يحتكم على موقع رفيع يتصل بالمجهودات السياسية التي تعمل من الخلف، ولاسيما في ظلال حقبة تاريخية شديدة الحساسية.
رحلة نحو الذات
تُبنى الرواية على مركزية عنوان بقايا اليوم، وهو تكوين يسم مجمل الرواية التي تسكنها بقايا الأشياء، وظلال الزمن والأشخاص، وهو ما تؤكده تلك الجمل السّردية التي تُوجد في أكثر من موقع من الرواية، حيث تتكرر كي تحيل كلمة بقايا إلى ما يمكن أن ينجز، وما يمكن أن يكون قد انتهى لتكون أقرب رؤية تحتكم إلى شعرية فنية ودلالية واضحة. يمكن تأطير المسكونات الدلالية في سياق ثقافي، حيث يكون القصر جزءاً من سلطة مستترة، تعمل على التحكم في العالم عبر مجالس مغلقة، في حين يقوم خدم محترفون على خدمة هؤلاء السادة، ومنهم «ستيفنس» الذي يعدّ دوره في الخدمة جزءاً من دور عظيم ينهض على خدمة البشرية، إذ يسهم من خلال موقعه – بإحساس مبالغ فيه بالفخر- في رسم مستقبل العالم، والمحافظة على قيمة، وهنا تتحول الخدمة إلى طقوس بريطانية أصيلة، تأتي بموازاة ظلال علاقة عاطفية صامتة أو غير واضحة المعالم تجمع بين الخادم ستيفنس مع إحدى الفتيات العاملات في القصر، وهي مس «كنتون». هكذا نستعيد هذه التفاصيل في استراتيجية سردية تعتمد فكرة الرحلة التي يقوم بها ستيفنس للتخفيف عن نفسه، بعد ارتكابه بعض الأخطاء، مع رغبة لا واعية في عودة مس كنتون إلى القصر بعد أن غادرته من سنوات.
تبدو رحلة الخادم فاعلة وظيفياً على مستوى الحبكة، وقوامها التأمل في الذات والماضي، مع أمل باستعادة المرأة التي هجرت القصر بعد تجاهل ستيفنس لها، فالرغبة بعودة مس (كنتون) أو السيدة «بن» تتولد نتيجة تأويل خطابها الذي أرسلته له حول وضعها العائلي، ما يستدعي مشاعر الحب أو الحنين التي تبقى غير منجزة، حتى أننا نكاد لا نجزم بوجودها إنما نتوقعها، أو نسعى لتوليدها دلالياً في السرد، كون المتلفظ النصي من لدن ستيفنس يتمحور حول عودة تتعلق بالعمل والقصر، لا نتيجة المشاعر التي تكمن في ظلال شخصية متحفّظة، بما في ذلك ردة فعله المحايدة بعد أن تصرح السيدة عن عدم رغبتها بالعودة لكونها تحب زوجها.
يتنازع الرواية مستويان: ذاتي متصل بالخادم، وما يمور في داخله من إعجاب صامت بالسيدة «بن» أو مس «كنتون» التي كانت تفتعل معه مواجهات كي تلفت انتباهه أثناء فترة عملها، غير أنه أدرك ذلك متأخراً، أو بعد أن فات الأوان، إذ لم يتبقَ شيء من النهار.. هكذا يدرك ستيفنس بأن حياته تسربت من بين يديه نتيجة قناعاته التي ترى أن العالم ينتهي في حدود القصر، وخدمة سيده.
المستوى الثاني يتصل بإنكلترا أو بريطانيا التي طغى عليها الهرم، وفقدت وهج الروح والشباب، تلك الإمبراطورية التي خرجت من الحربين العالميتين لتكون متأخرة، فلا غرو أن نرى كيف أن الرواية تعلق في وصف صيغ التحول، ولاسيما مع صعود الولايات المتحدة الأمريكية، وما يكتنز بين ثنايا السرد من القطاعات التي تنتقد التمثيلات الجديدة، وما يتصل بمفاهيم الأصالة، وانحسار العراقة الإنكليزية، مع بيان التوتر المتصاعد مع أمريكا، ممثلة بشخصية الضيف الذي ينتقد توجهات السياسة البريطانية تجاه ألمانيا، خوفاً من توقف الإيرادات التي تحول دون تحصيل أمريكا لديونها.
أفول الإمبراطورية
ضمن مقولة «بقايا اليوم»، نقرأ هذا الأفول والاحتساب لما يمكن أن يكون ذا أثر، في مجمل التكوين السردي، بدءاً من المكان والشخصيات والحبكة، وهنا يمكن أن نقيم أفقاً دلالياً يتمحور حول مفردات الراوي، فشخصية الخادم تتوسط بؤرة السرج، وهو رجل اقترب من سن الشيخوخة، ولكنه ما زال مؤمناً بدوره وقيمته، وما تبقى من زمن، ولكن من ناحية أخرى فثمة الحقيقة المطلقة بأن كل شيء إلى تغير، أو إلى أفول، وهنا نرى أن قصر (دارلنغتون) قد آلت ملكيته إلى رجل أمريكي، في إشارة واضحة لتحول تموضع القيمة الإنكليزية بوصفها إمبراطورية، وأفولها ضمن قراءة رمزية ثقافية، وعلى ما يبدو أن منظور ستيفنس لوطنه يتخذ إجراءات تنجم عن الرحلة التي يكتشف فيها الريف الإنكليزي، فكأنه يراه لأول مرة، حيث يتحرر ـ مؤقتاً- من المكان، والقصر الذي استغرق حياته كلها.
الانسحاب ليس جزءاً من ثقافة ستيفنس، ففي حواره مع أحد الرجال في المقهى، بدا ستيفنس غير معنيّ بمقترح للتقاعد من منطلق أن أفضل جزء من اليوم هو الليل بعد أن يكون المرء قد أدى عمله، ففي السطور الأخيرة يصرح بأنه سوف يسعى لأن يتجاوز ما يتسم به من مزاج نكد ليكون أكثر مرحاً، وعليه يجب أن يحسن من مهارته من أجل إرضاء السّيد الأمريكي.
يرى ستيفنس ما يجري في العالم من موقعه، ووعيه الذي يعتقد أن عمله كخادم ينسجم مع معاييره، وأوهامه التي تتعلق بمقولة الخادم العظيم، على الرغم من معاييره تخالف معايير المؤسسة التي ترعى شؤون الخدم، وهذا يتضح من خلال مرويات متعددة حول معنى الخادم العظيم، إذ يرى ستيفنس بأن الشخص لا يعوقه شيء عن تقديم أفضل أداء بما في ذلك الظروف الخاصة، ومن ذلك وفاة والده في اليوم عينه الذي عقد فيه مؤتمر مهم. قطاع كبير من الرواية يمتزج بسردية تاريخية تطال دور السيد الإنكليزي (مالك القصر) وعلاقته بالألمان، كما الصراع الذي يكمن بين رجالات السياسة من الأوروبيين والأمريكيين، وتحديداً كيفية التعامل مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وما ينتج بعد ذلك من تداعيات الحرب العالمية الثانية، لتبرز إلى الرواية مقولة معاداة السامية، كما يحاول أن يفسرها الخادم في قراءة موقف سيده من اليهود تحت تأثير بعض الجماعات، علاوة على تهم تطال السيد بعد الحرب العالمية الثانية بدعوى تعاطفه مع ألمانيا. تبدو هذه القضايا جزءاً من خطاب لا يسعى إلى عرضها بوصفها جزءاً من رؤية عميقة في السرد، بمقدار ما يسعى لأن يبرزها في إطار سردي يهيمن عليه وعي الخادم، وحساسية موقفه مما يجري، فهو يعدّ شاهداً من التاريخ، كما يبدو أسير قناعاته التي يستمدها من مهنته العظيمة، بل إن هذه المهنة تكاد تصوغ رؤيته لعالمه الخاص والحميمي، فهي شخصية نراها باردة ظاهرياً على المستوى الشعوري، ولكنها مأزومة أو متوحدة من الداخل، غير أن التطبيع الذي صبغ عمله، جعله يلقي بكل ما في داخله في مكان بعيد كي يبقي على جذوة الروح التي تجعله ضمن مقولة الخادم العظيم. من إيجابيات هذا النمط من السرد قدرته على بناء مستوى من الدلالات مؤطّرة أو محتجبة لا تستهلك مباشرة المعنى، بمقدار ما تتولد في سياق الصيغة السردية المقتصدة التي تنطوي على ما يمكن أن نفكر فيه، وما يمكن أن نتوقعه في عملية التشييد الدلالي لنسق الدلالات التي تكتنف الرؤية السردية.
ملامح دلالية
نلاحظ أن ملامح التغيرات التي شهدتها بريطانيا عبر الرحلة التي اضطلع بها ستيفنس، فنرى من خلاله الريف الذي تغير بفعل القنابل الألمانية، وحواره مع السكان، مع محاولة أن يدرك هذا التموضع الجديد لوطنه الذي لم يعاينه نتيجة التزامه بعدم مغادرة القصر، وهذا ما يحملنا إلى فض بكارة الدلالة للبحث عن تصور مقبل، حيث يكون الجميع في خدمة الإمبراطورية التي يمكن أن نختزلها في القصر، وما ستيفنس سوى فرد من الجموع التي تؤمن بعظمه الإمبراطورية، ولكنها في النهاية ستنتهي أو تأفل، وهذا ما تؤكده حركة الزمن، وحتمية الاضمحلال، وتلاشي كل شيء، غير أن المكان يمارس دوراً وظيفياً في بناء القناعات حول الدلالة الرمزية لمشهد القصر، حيث بقايا ضوء النهار تلقي بأشعتها البرتقالية على أرض الممر في القصر، في إشارة رمزية لمقاومة التلاشي.
ما يبعث على تأكيد جدل موقع الإمبراطورية، مقارنة الجمال الإنكليزي بغيره، ونعني افريقيا وأمريكا، حيث يرى الخادم أن جمال بلده مختلف، كونه لا يميل إلى الوضوح والمباشرة، فهو ليس كالجمال الفج في كل من أمريكا وافريقيا، مع الاعتزاز بعظمة الخادم البريطاني الذي يعكس روح بريطانيا بداعي محافظته على التحفظ العاطفي، ما يعني تميزه عن الآخرين، وهذا يأتي بالتضافر مع المنظور القيمي المتمثل في رغبة سيد القصر البريطاني بتحقيق العدالة، بوصفها رسالة بريطانيا العظمى، فلا جرم أن يتغنى ستيفنس بالسادة أو الضيوف الذين أسهموا في ازدهار الإمبراطورية.. وهكذا نرى هذه التصورات – سردياً- في سياق أقرب إلى تعريض مبطن.
في حوار الخادم مع سكان إحدى القرى حول مساوئ الديمقراطية، نلمح شيئاً من معالجة مقولة أفول بريطانيا العظمى، الذي يعضده الحوار حول ثنائية القديم والجديد، في إشارة إلى التحول الذي تشهده القوى الإمبراطورية نتيجة بروز مفاهيم الحداثة: «نحن في هذا البلد نكتشف ببطء شديد جداً أن الأشياء قد أصبحت قديمة، الدول العظمى الأخرى تعرف أنها لكي تواجه التحديات الجديدة لا بد لها من أن تنبذ القديم، وأحياناً تكون في ذلك القديم أشياء محبوبة، ولكن هذا لا يحدث في بريطانيا ». وعلى ما يبدو أن هذا النقد يطال قيم اليوم، ونعني تراجع الأخلاق النبيلة، فالخادم يعدّ جزءاً من الصفقة التي تمكن من خلالها السيد الأمريكي من شراء القصر، بكل ما يحمله هذا من طاقة لتوليد دلالات مشفرة في بنية النص، ولعل أهمها أن أمريكا وريثة العظمة من بريطانيا، ولكن هل هي عينها العظمة التي يقصدها البريطانيون!
وختاماً، فإن الانسحاب ليس جزءاً من ثقافة ستيفنس، ففي حواره مع أحد الرجال في المقهى، بدا ستيفنس غير معنيّ بمقترح للتقاعد من منطلق أن أفضل جزء من اليوم هو الليل بعد أن يكون المرء قد أدى عمله، ففي السطور الأخيرة يصرح بأنه سوف يسعى لأن يتجاوز ما يتسم به من مزاج نكد ليكون أكثر مرحاً، وعليه يجب أن يحسن من مهارته من أجل إرضاء السّيد الأمريكي.
كاتب أردني فلسطيني