تأخذ رواية “بيت خالتي” لطبيب الأسنان والأديب العراقي أحمد خيري العمري، الصادرة في عام 2020، المشهد الأخير الذي انتهت إليه الثورة السورية، إبان مرور عقد من سيل دماء غزير للضحايا، حيث نفّذ خلالها النظام الأسدي السوري آلاف العمليات العسكرية الجوية والبرية ضد المدنيين من أفراد شعبه، عبر جيش الدولة وأجهزتها المختلفة -المدنية وذات الطابع الأمني كذلك- مسخراً كل إمكانات الدولة السورية، المادية والبشرية، لهزيمة خصومه والداعين لتغيير حكمه، في سبيل ذلك قام باعتقال وتصفية وقتل عشرات الألوف بالتعذيب الممنهج في مراكز الاحتجاز الحكومية، بل وأنه حوّل أروقة مؤسسات ومستشفيات وجامعات ومدارس وبقية الدوائر الرسمية للدولة السورية لتصير مراكز تصفية ومسالخ بشرية مغيراً بذلك الخريطة الديموغرافية للبنية السكانية في سوريا، محتفظاً بالبنية البشرية المتجانسة والمتصالحة مع بقائه، ليكون ما تبقى من البلاد ومصادرها البشرية والطبيعية، تحت رحمة حكمه، معلناً استمرارية تغول سلطته واستمرار اغتصابها للدولة السورية، تحت ستار الانتصارات الوطنية والحرب على الإرهاب!
مجموعة من الخارجين عن القانون
لن تتحدث الرواية عن الأخطاء أو الكوارث التي تسبب بها طيف ممن انتسب للمعارضة السورية في حالة الفوضى وعدم الاستقرار، لأن هؤلاء مجموعة من الخارجين عن القانون، وليس لهم عهد بإدارة الدولة، وهم لا يمتلكون زمام القرار السيادي، ولأن لبعضهم تصورات بدائية أو أفكار تخطتها عجلة الزمان، لا يمكن أن يقبل بها غالبية السوريين الذين نادوا بالدولة المدنية العصرية.
أما السبب الرئيسي حسب الكاتب وعلى لسان أحد أبطال روايته الأرشيفية التأريخية، فلأن هذه الوثيقة الروائية ليست مخصصة حالياً للحديث عن تلك التجاوزات أو الجرائم، فلها من قام بتأصيلها وتوثيقها من قبل المعارضين أنفسهم، الذين انتظموا في مؤسسات تراقب الصغائر والكبائر مما وقعت فيه المعارضة بطيفها الواسع من المواطنين، والمعلن عن الرواية أن لها هدفا محددا هو الحديث عن الطرف الأقوى والطرف الذي يمتلك مصادر الدولة ومؤسساتها بل و”الشرعية القانونية” والجيش وأجهزة الأمن، والتي تتبع منهجاً يتصف بالوحشية والإجرام المنظم، وهو ممارسات واضحة متصلة بمسار زمني طويل ، حدث إثباته مرات كثيرة على المستوى الداخلي منذ جرائم الثمانينيات التي تمت ضد المدنيين، وكذلك على مستوى دول الجوار، بأن تم توثيقها بما لا يقبل مجالاً للشك أو دفعاً للريبة أنه ينتهج منهج الأرض المحروقة والقتل بالتعذيب الوحشي، ناهيك عن استخدام سياسة الاغتيالات لأطراف تعارضه، أو أطراف كانت من أصل نواة نظامه الصلبة، ومن ثم خرجت عن سيطرته، فيلجأ لتصفيتها بكل ما يمكن للوحشية أن تتصف بصفات لا يمكن تصور مدى وضاعتها.
تحكي الرواية بأحد أهم المفاصل التي تناقشها عن حالة “الإنكار”، وهي حالة مزدوجة من عدم الإقرار بالواقع ونتائجه، حيث يبدأ بطل الرواية بالاستغراب من موقف الثبات على القضية ضد العصابة الحاكمة في سوريا، واصفاً إياه أنه أغرب حالة إنكار للواقع من قبل أولئك الحالمين، الذين شاركوا بالثورة على النظام، وآمنوا بالتغيير، رغم إعلان الهزيمة عسكرياً لصالح النظام من قبل العديد من المختصين، لا تشرح الرواية كيف تم ذلك، وقد تم بعد تداخل العديد من العوامل الخارجية المعقدة والمركّبة، تلك التي أسهمت ببقاء العصابة الحاكمة جسداً منخوراً وخاوياً، أشبه بعصا سليمان، يعيش على أجهزة إنعاش التدخل العسكري الخارجي لروسيا وايران وما يتصل بهما من مصالح خارجية، يتبختر بغباء في أجهزة إعلامه، يعلن نفسه منتصراً فوق تلال من جماجم وأشلاء السوريين على مساحات شاسعة وخاوية من أهلها، الذين قتلوا أو تم تهجيرهم، ودُورهم السابقة مهدّمة بشكل يثير الرعب والخوف، مع ذلك نجد أن النظام السوري وأنصاره ينتظرون من العالم، أن يعاود الاعتراف به ليحصد مع أعوانه مكاسب إعادة الإعمار التي يسيل لها لعاب داعميه.
هذه الشخصية الذكية ولكن الأنانية، هي العلة الأساس التي كُتبت لأجله الرواية، فقد انطبعت باللون الرمادي، كناية عن كونها لم تأخذ لوناً واضحاً تجاه ما يحدث من خراب في بلادها -سيظل مستمراً لو بقيت تنكر وتتجاهل ما يحدث- هذه الشخصية تمثل غالبية الشعب السوري، حتى يومنا هذا، داخل وخارج سوريا، هي الفئة الهدف والغرض الذي كتبت لأجله الرواية، حيث يحاول العمري كاتب الرواية، أن يضعه في مقام المسؤول الذي ينبغي أن يستفيق من إغفاءته الجبانة، علّه لا يتأخر عن حمل الشهادة من أولئك الذين حاولوا وسعهم، ولكنهم بالنهاية استسلموا للضعف البشري.
تقول الرواية: إنكم إذا أردتم بناء وطن جديد، فعليكم بتحمل بعض المسؤولية ومحاسبة كل من لطخ يديه بالدماء.
تداخل المصالح الدولية
تحكي الرواية عن نتائج السنين الماضية المشبعة بالقهر والخذلان والتسييس وتداخل المصالح الدولية، واستمرار المذبحة دون بواكٍ على من ذهب، بما فيها خذلان الأخ والجار والقريب والبعيد، ما ولّد حالة عسيرة الشرح، مثقلة بالضعف والوهن والجروح، لكل من آمن بالتغيير، خصيصاً مع تعالي الموجة التي تدعو لمراجعة موقفها من النظام السوري، وتغير مواقف مؤسسات دولية كانت تدعم الحراك المدني في سوريا، لأسباب مختلفة، منها ما هو براغماتي نفعي، ومنها ما هو متجذر في وجدان سياسي تلك الدول التي تؤمن جماهيرها المستعبدة بالخضوع للمنتصر والمتغلّب، يظهر ذلك واضحاً خلال سيل من جحافل لسياسيي دول عربية وإسلامية تنادي بالاعتذار من النظام السوري، وتطمع أن يصفح عنها بعودته للجامعة العربية! ليكون شريكاً من جديد في المشهد السياسي العربي، في مشهد سريالي عبثي يستلزم الكثير من الجهد التخصصي لتفكيكه ودراسته واستيعابه وكيف وصل معتنقوه لما وصلوا إليه من حال لا يمكن بحال من الأحوال فهمها، قد تضع إيمان ومعتقدات شريحة واسعة من الناس على المحك…..
هذه الرواية نداء استغاثة أخير، خصيصاً للمتدينين السلبيين، ممن يقفون بصف الإجرام والمتحكم والمتغلب، هؤلاء الذين هم بذاتهم لطالما سكبوا الدموع على سميّة بنت الخياط، أو أولئك اليساريين الذين طالما تنادوا وأعلنوا أنهم يتبعون الأيقونة اليسارية تلك أو ذاك، وإذ بهم جميعاً، عند استحقاق الحقيقة والواقع يسقطون ويتهافتون لجانب مصالحهم ومع ذواتهم وأهوائها، لطرف النجاة والبقاء على قيد الحياة، والرضوخ لصاحب القوة القاهرة، أيّ حياة هذه التي هربوا للبقاء فيها!!! حتماً ستكون الشقاء عينه، أجساد ميتة وخاوية قبل قبض أرواحها، الرواية تقدم لهم النداء الأخير ليركبوا مراكب إنسانيتهم وليتخلصوا من عبء السلبية وشهادة الزور، وليكونوا عامل بناء حقيقي في ردم الأخـدود الكبير الذي تمّ حفره عميقاً جداً في وجدان المجتمع السوري ما أدى لتصدعه وزلزلة أساس تشارك أفراده في المواطنة أو شراكة الحيز الجغرافي، فيقدموا ما لديهم من شهادات يعرفونها حق المعرفة، قبل أن يذهبوا ليوم لا ينفع فيه الندم.
تبدأ الرواية من حالة قهر مركّبة، تنتهي بشاب ذكي، مؤمن بالتغيير والثورة، لا يمتلك انحيازاً سياسياً، ممتلئا بالقهر، تحمل روحه عبء الانهيار الأخلاقي الذي تسبب بكسره داخلياً، كسراً غير قابل للجبر من جديد، فينتحر وحيداً في منفاه ببرلين في ذكرى انطلاق الثورة في سوريا في الخامس عشر من آذار- مارس، منفذاً فعلته على وقع صوت المطربة أصالة وكلمات لأغنية تغنيها لإحدى قصائد نزار قباني، الشاعر الذي طالما صدح قلمه وصوته يقدح شرر الثورة على الأنظمة السياسية والاجتماعية العربية جميعها، اختيار المطربة التي انحازت للثورة، والأغنية والكلمات كان موفقاً للغاية من قبل الكاتب ويصب في مصلحة رسالة روايته، بالرغم من أن فكرة البناء على انتحار شخص يحمل قضية، تكاد تبدو فكرة تدعو لوأد الرواية قبل إتمام قراءتها لدى شريحة كبيرة من المؤمنين أو الإسلاميين، الذين يرفضون فكرة الانتحار من أساسها، دينياً أو حتى قيمياً، ولكن الرواية نجحت بتخطي هذا المطب، خصيصاً أن القضية الأكبر هي الظلم والموت قهراً عبر أدوات الدولة الشرعية التي تدعي أنها كالأب الذي يتعامل مع كل أولاده سواسية، وإذ بفكرة الانتحار لا تعدو لتكون فكرة يتم عبرها ترسيخ فكرة الإيمان وأنواعه والانقلاب ضده أو الثبات عليه برغم الابتلاء الشديد الذي لا يكاد يتحمله عقل، وهكذا نجا الكاتب من فكرة توظيف الانتحار، بل وإنه بنى عليها بنياناً قوياً وراسخاً يخاطب كل من فكر أو يفكر بها، ويذكره بعظم القضية وأحمالها المضنية ويشرح أن موضوع الحكم على المنتحر وكمية الضغوط التي تُمارس عليه أو ضده معقدة للغاية، وعلينا أن نترك حكمه لمن هو مطلع على ما في داخل نفسه في يوم عظيم، يوم ينشغل كل امرئ بما قدّم أو تجاهل وتسبب بحالات عظيمة من الظلم، بل وساند المجرمين، أياً ما كانوا ومهما كانوا، وعليه فلينشغل المرء بما سينتهي إليه، بدل الانشغال بمكان معتلّ نفسي في الآخرة، بالرغم من أنه غير مطلع على التفاصيل أو يملك ما سينتهي إليه هو نفسه بمعزل عن مآل هذا الإنسان أو ذاك، ومن هذا الباب تناقش الرواية أشكال الإيمان والانصياع لمقدرات القضاء والقدر وتحاول وسعها الابتعاد عن مثاليات وردية أنهكت تصورات الكثير من الشباب وجعلتهم عرضة لمشاعر سلبية متصلة، حين يجدون أنفسهم تحت مستوى ما تتناقله الروايات الدينية أو التاريخية، عن قوة وثبات كثيرين في زمن ماضٍ، وهذا قد يكون مجرد خيال غير واقعي، يُجمّل التاريخ، أو يُحسن من مساره، فالوضع الطبيعي لما تحتمله النفس البشرية من نقائص وتناقضات وصراعات في بنيتها الداخلية، هي شأن أصيل فيه.
الرواية ليست مكتوبة بطريقة انشائية مسبوكة بشكل أدبي عال المستوى، بل هي رواية تأصيلية محكمة البنية والحبكة والهدف، ترسم خريطة دقيقة للنفس البشرية نفسياً، حيث لا تستطيع الجزم بالقدرة على إبداء حكم نهائي على أحد ما، بالرغم من توافر العديد من المظاهر التي تدل على أن صاحبها يسلك سلوكاً معيناً. الرواية كذلك ترسم خريطة تصورية للكيفية التي بالإمكان عبرها تحريض طرف بشري ضد آخر، فتجعله أدنى من مستوى الهوام والرخويات فبذلك تتسفل لدى صاحبه كل موجبات التعاطف، فيتملك حينها القدرة على ارتكاب الموبقات والمحرّمات بحقه.
يمتلك الكاتب خزينة ممتازة من الأمثال والمفردات التي تتناسب وبيئة العمل الروائي عن أهل الشام وهذا يدلل على أنه يكتب عن مجتمع يعرفه حق المعرفة – الكاتب عاش في دمشق بضع سنين – وقد قام بخلق عوالمه وتصوراته عن نقائص هذا المجتمع وتباين بيئات أبطال شخصياته وتناقضاتهم وتحزباتهم وعاداتهم بشكل مطابق للحقيقة.
كون الكاتب عراقي الجنسية، هذا بحد ذاته يرسل رسالة علّها تكون واضحة للعرب الذين يجهلون ما جرى أو يجري في سوريا وبدأوا بتفسير ما حدث بناء على معطيات إعلامهم الرسمي، الذي يحمل بشكل فاضح وواضح لواء الثورة المضادة، ضد إرادة الشعوب العربية المسحوقة والتي أنهكها الفقر والجهل والتبعية والارتهان لسطات إجرامية، تتربع على عرش السلطة في الدول العربية والإسلامية، حاولت هذه الشعوب وسعها وبالرغم من كونها قد نادت بالتغيير، وبناء الإنسان القادر على حمل رسالة التغيير في واقع دولي متحيز، القيم والمبادئ فيه تذهب مذهب الريح، حين تتعارض مع المصالح، هذا الإعلام الرسمي المتسفّل، يُحمّل كل تبعات المسؤولية للشعوب المقهورة، والمنزوعة القدرة على الدفاع عن نفسها، ويساهم كل المساهمة بشهادة زور عما يحدث لمقهورين، فيبدّل موقع الجاني، بالرغم من أنه المجرم المتحكم بكل مفاصل الدولة، فإذ به يلبس لباس الحمل المسكين الوديع، المضطر لارتكاب هذه الفظائع ليحافظ على الـ”دولة”، والذي لم تُمكنه خيانة الخائنين من الرد عليهم بطريقة حضارية لائقة، ويحسب هو وأتباعه أن الأمر قد انتهى بالقضاء على الخارجين عن طاعته، ولكن الجرائم الفظيعة التي ارتكبها تذهب لتكون جمراً ينام تحت الرماد، سيخرج فيحرق الأخضر واليابس، في حال استمرار التواطؤ مع الأقوى والمتغلب، يختصر هذا الحال عنواناً أورده أحد الصحافيين الغربيين عن حقبة هتلر النازية، فيقول إذا أردتم أن تعرفوا كيف كان ليكون العالم في حال انتصر هتلر ومحوره، فعليكم مشاهدة سوريا!
لا عزاء للساكتين و المتنصلين من قول الحق وأصحاب شهادة الزور، هذه الشريحة التي تحاول عبثاً التهرب والهروب من موجبات الشهادة والمشاركة بتحمل أعباء وأوزار وتبعات التغيير، وهي تعرف كل المعرفة أنها تفعل ذلك خوفاً ورعباً فترد عن أنفسها بالتجني وتحميل تبعات الواقع على كاهل من آمن بضرورة التغيير، يتم ذلك غالباً بأسلوب دنيء ورخيص يرمي بكل الأحمال والأثقال والأوزار على الضحية ويتهرب من الإشارة للجاني ولو بشق سؤال عما يُفعل باسمه وتحت سمعه وبصره، وهذا ما لا يريده الكاتب ليكون مصير أولئك المتهربين، فهو يربط ايمان الفرد بضرورة أن لا يكون من شاهدي الزور، أولئك ما زالوا أكثرية في واقع مجتمعاتنا بكل أسف، يمكن أن تصل إليه معنى هذه الكلمة، هذا الحال لا يبني أوطاناً، ولا يبني إلا المزيد من إنسان ذليل، مقهور ومكسور، يظل يسمي مراكز التوقيف ورجال العسس تورية وخوفاً بـ”بيت خالتي”، وإلى أن يصبح المواطن قادراً على زيارة بيت خالته بدون خوف أو وجل، ستبقى هذه البلاد مجرد حيز جغرافي غريق بالدماء، بالفوضى والارتهان للمصالح والإرادات الخارجية، لا يمكن له أن ينتصر أو يسلك طريقاً يبتغي فيه رفعة أهله وتقدم البلاد.
كاتب سوري
تصحيح للأخ كاتب المقال، كاتب الرواية متزوج من عراقية و ليس من سورية .
قلمك جميل ياصديقي أتمنى منك ان تبدأ محاولات في كتابة القصة القصيرة.
تحليل جميل وفقك الله لكل خير.