عشر سنوات مضت على انطلاق الربيع العربي وما زال توصيف هذا المسار التاريخي عرضة للكثير من التأمل والمراجعات، غير أن أهم منتجات الحدث القدرة على عكس الواقع عبر تجليّات التخييل السردي، بما يحتمله ذلك أحياناً من منظور وصفي أو تحليلي، مع التأكيد على أن هذا الحدث لا يمكن أن نعدّه صيغة منتهية كونه مسكوناً بالقلق، فملامح الواقع ما زالت غائضة الملامح، بالتوازي مع فيض الانتظار والترقب، في ما يتعلق بالتداعيات التي ما انفكت تحدث أثراً في صوغ مصائر الإنسان.
لقد بدا العقد الماضي من القرن الواحد والعشرين عربياً بامتياز تبعاً لأثره في وجه العالم، فالحراك الشعبي الذي أخرج الكثير من المسكوت عنه، وكسر حاجز الخوف في الوعي الجمعي، لم يتمكن من تحقيق أهدافه، ولكن ثمة من يرى أن هذه المرحلة صحية، على الرغم من الجدل أو الصراع الدائر بين تيارين: الأول يسعى إلى الحرية والكرامة، وآخر مضاد يسعى إلى تقويضه. إننا إزاء مرحلة حتمية، أو لعلها تعدّ جزءاً من مسار التاريخ للوصول إلى حرية الإنسان، وصون كرامته، على الرغم من فائض الآلام، لنخلص إلى أن الرواية السورية أمست ذات طابع متغاير في العقد الماضي كونها تعكس هذا الانقسام في تفسير الحدث، بيد أن ثمة اتجاهاً ينهض على تقديم الوعي الإنساني، ونبذ الأيديولوجية العمياء التي أحدثت دماراً هائلاً في الأوطان.
الاستباحة: المكان والإنسان
في روايتها الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2019 تسعى الروائية أسماء معيكل إلى نص كنائي في بنيته الكلية، حيث نتتبع حكاية عائلة تختزل الوجود السوري، لتكون معادلاً موضوعياً لفائض الألم والجنون، حيث يبقى النص السردي مشدوداً إلى قضايا مركزية لا تدعي انحيازاً أيديولوجياً بمقدار ما تسعى لنقضها. إنها أحد المرتكزات الأساسية للنص، ضمن مستوى النقد العميق للسلطة، كما الارتهان لقوى أيديولوجية دينية، أو سياسية. رواية تبحث عميقاً في ذلك الارتباط العضوي بين السلطة على اختلاف أشكالها، بما في ذلك المتعاليات الذكورية، ليظهر المكان والجسد مرجعين أساسيين من مراجع تكوين النص في تمثيل متعدد الأبعاد، إذ يعمل هذا النهج بوصفه دالة عميقة، وهذا ما يجعل من الرواية في بعد من أبعادها، معنية بنقد هذه المنظومات القارة، ولكنها في بعد آخر تبدو ذات طابع وصفي، منشغل بتتبع رسم صور الألم، وتكوين مشهدية الواقع السوري المؤلم عبر لوحات تبدو مركزة، ولكنها شاملة لاختزال مآلات الوطن السوري، والانفتاح على أسئلة المستقبل قبل الماضي.
إن جغرافية المكان السردي المتخيل لا يغفلها القارئ، كونها تستند إلى رمزية وظيفية حيث «تل الورد» لا تحيل إلى مرجعية واقعية، إنما هي بنية مكانية متخيلة تحمل صيغا استعارية أو كنائية، مسكونة بمواصفات التمثيل الرمزي للوطن برمته؛ بما تحتمله الممارسة الطباقية بين «تل الورد» و«سوريا» في حدود ما قبل وما بعد، وهكذا يمسي المكان فضاء دالاً يختزن الصمت والألم. لقد استحالت الطبيعة والرائحة والأشجار والورود إلى كيانات الموت، تعبرها الجثث المتحللة، لينقضي التمثيل الجمالي للقرية التي تقع في مدينة حلب، ولاسيما عبر متابعة النموذج المصغّر لعائلة تقطن قرب ضريح أبي العلاء، وهكذا فلا جرم أن تحمل العائلة اسم المعراوي في إشارة واضحة لنزعة تكوينية تتسم بالتعالي ضد المكّون المادي، والانزياح لتقديم الإنساني في صيغته العليا، في حين تحتمل أسماء الشخصيات دالات واضحة يفعّلها التضاد فأسماء (عمران وربيع وباهرة) تحمل في داخلها نواقض الإشارة فتحيل إلى الهدم، والذبول، في حين أن اسم «كافي» يزخر بصرخة الاكتفاء من الألم. تلك العائلة التي نراها في وضع متوازن سرعان ما تفقد طبيعية وجودها، ضمن بناء من التسلسل الوظيفي للأحداث، مع تصاعد الاحتجاجات المسبوقة بخلفية أحداث مدينة حماة، وتداعياتها، بالتجاور مع انطلاق شرارة الاحتجاجات السلمية عام 2011.
إن قراءة الرواية تبعا لتقسيم مسارات الشخصية يبدو الأكثر وجاهة، كون كل شخصية تحتمل قدراً من الطيف الدلالي، غير أننا آثرنا أن نأتي عليها باختزال والتوقف لتكوينات الثقافية للأزمة السورية في وجودها، وهي تتصل بنقد المكون الأيديولوجي الديني، والسلطة، والفساد، واللجوء، والجسد الأنثوي.
العمى الأيديولوجي
يبنى مكون العائلة على مرجعية دينية مهجنة أو مختلطة، فهي تمثل سياقاً من التسامح الديني، فالأب سني والأم شيعية، ولكن هذه الاختلافات لم تكن لتبرز على السطح قبل الثورة، هذه الأسرة تتقاسم تداعيات الأحداث، بدءاً من الأب مروراً بالأم، وانتهاء بالأبناء، حيث ينظر إلى العائلة بوصفها تكوينا بنيوياً تهشم ليمسي صورة من صور الجنون، الذي يعصف بالوجود العضوي الذي ينتج عن انشقاقات أيديولوجية، فعمران الذي كان مجنداً احتياطياً يبدو اختزالاً للمكون الكلي للشعب السوري (البسيط) الذي يسعى لأن يتجاوز أزمة الارتهان لطرف على حساب طرف آخر، يتخلى عن موقعه العسكري، ليبقى في وجود أسرته التي يسعى لأن يجنبها مصير الفناء، في حين أن «ربيع» الأخ الأصغر (الشرطي) يغادر موقعه في السلطة ليتحول إلى جبهة الجماعات الدينية المتطرفة، كردة فعل على تطرف السلطة، وعنفها في قمع الاحتجاجات السلمية، وهناك شخصية «كافي» زوجة عمران التي تغتصب، ومن ثم تشرع في خطّ وجودها المشوه في سياق ردة الفعل، كما الأخت «باهرة» التي تختزل وجودا مأزوماً، في حين أن الطفل «حيان» – ابن عمران وكافي- يحمل هو الآخر دالة واضحة تحيل إلى المستقبل المجهول، والضياع.
في نموذج آخر تبدو قراءة الارتهان الأيديولوجي صيغة واضحة من خلال انحراف «ربيع» مع إحالات إلى أزمة ثقافية لدى العائلة، كما نقرأ في شخصية «كافي» وموقفها من ابنها «حيان» الذي تأثر بقيم العائلة الهولندية التي تنهض على التسامح الديني، ولكن موقف (كافي) تسبب بفرار الابن (حيان) ليتحول التشنج الديني لأحد أهم الأسباب التي أفرزت ضياع المستقبل السوي، وهذا ما نراه في موقف ربيع الدموي، خاصة انعكاس ذلك على موقفه من والده ووالدته واخته؛ ما يقودنا إلى سطوة الأيديولوجية الدينية المتطرفة على العقل الإنساني الذي يرتهن له بلا وعي، ومن ذلك إصرار «ربيع» على تكفير والدته ووالده كون الأولى شيعية، والثاني يصون مقامات الأولياء والصالحين، وهكذا نقع في مجال سوداوي كئيب، أو يبدو مفرطاً في تشاؤمه، لتواصل الرواية تغذية القارئ بمرايا تعكس حقيقة الإنسان في توجسه من الآخر، ولكنها أيضا تدين الفساد، وغياب قيم العدالة والحرية، وتدين أيضاً تداعي الروافد الخارجية على تل الورد، من قوات إيرانية وروسية، وغير ذلك.
تبدو الرواية محتشدة بالكثير من النماذج الحدثية التي يأسرها أو يثقلها فعل الشرح أو التفاصيل في بعض المواقع، غير أنها في إطارها تحمل إدراكاً واضحاً لمستويات النقد، لأزمة الاقتتال الداخلي الناشئ عن ولاءات وأيديولوجيات كما نرى في شخصية «ربيع» الذي يتخلى عن وجوده (الطبيعي) لصالح وعيه الجديد المسكون بردة الفعل تجاه السلطة، فينكل بعائلته، وينتهي بها المطاف مقعداً فاقدا رجولته، في حين أن «عمران» في سلبيته التي تتجلى عبر هربه من سوريا من أجل عائلته وهناك يفقد ابنه في هولندا، التي وصل إليها عبر رحلة طويلة بين الحدود التركية واليونانية وغيرها، وبالكاد يستطيع عمران العودة إلى تل الورد ليدفن زوجته «كافي» ولكن الأهم أنه اضطر إلى اتخاذ قرارات مؤلمة فقد تخلى عن ابنه، عندما سمح بتهريبه وحيداً إلى هولندا ليعيش مع أسرة مسيحية لفترة مؤقتة، غير أن «حيان» يعاني من عدم قدرة على الانسجام مع واقع عائلته السورية، فيهرب ضمن إحالة دلالية إلى الأجيال السورية التي فقدت بوصلتها في أماكن اللجوء، أو الفرار بما يذكرنا في رحلات النزوح الفلسطينية، ومناخات غسان كنفاني، ولكن الأهم أنها أجيال فاضت بالقهر الأيديولوجي والتعصب، وقهر السلطة.
الصدمة: استباحة الجسد
إن قراءة الرواية تبعا لتقسيم مسارات الشخصية يبدو الأكثر وجاهة، كون كل شخصية تحتمل قدراً من الطيف الدلالي، غير أننا آثرنا أن نأتي عليها باختزال والتوقف لتكوينات الثقافية للأزمة السورية في وجودها، وهي تتصل بنقد المكون الأيديولوجي الديني، والسلطة، والفساد، واللجوء، والجسد الأنثوي. لا يمكن أن ننكر بأن وطأة السلطة باختلاف عوامل ضغطها تعدّ أحد الأسباب الرئيسية لانحدار المستوى الوجودي، وتشظيه عبر فائض الموت والعذب. وهذا ما يجعل من أدب نوع الصدمة حاضراً في هذه الرواية عبر التمثيلات العنيفة، وأفعال الاغتصاب، والتعذيب، والأحلام، والكوابيس، والاضطرابات النفسية.
إن مشاهد التذكر والأحلام والكوابيس ومشاهد الأشلاء وقطع الرؤوس صيغة من صيغ التعبير عن أزمات الرواية، ضمن ما يعرفه العلماء باضطرابات ما بعد الصدمة، وهي صيغ نطالعها في وعي الشخصيات التي يسكنها الماضي، وتتداعى على شكل كوابيس أو أحلام لكل من: باهرة، وكافي، وعمران، وربيع، فضلاً عن صمت الأب بعد التعذيب، بالتجاور مع فقدان ذاكرة الأم بعد صدمتها بابنها «ربيع».
وهذا يحضر بالتوازي مع الأزمة التي تستشعرها المرأة عبر تكرار فعل الاغتصاب، الذي يحيل إلى دلالة رمزية لاغتصاب سوريا من قبل أطراف عدة، كما نرى في اغتصاب كل من «باهرة» و«كافي» من قبل رجال السلطة أو النظام، كما الجماعات التكفيرية، بل إن «كافي» ترفض جسد زوجها الذي ترى فيه اغتصاباً في إشارة إلى رفض أي وجود ذكوري؛ فالتعالي أو الإقصاء يتحقق من خلال نفي الجسد، وتشويهه عبر الوشم عليه. هذه الوشوم تبدو ردة فعل لتجاوز العطب الروحي أو النفسي الذي تأتى من تكرار عمليات الاغتصاب، فتشرع «كافي» بوشم رموز وإشارات مقاومة على جسدها ضمن طقس التعذيب الذاتي، في حين أن «باهرة» تفقد روحها نتيجة الاغتصاب ـ رغم الثأر من مغتصبها ـ ومع ذلك فلم تتمكن من تجاوز التداعي النفسي؛ ولهذا نرى أن الرواية تحمل قدراً كبيرا في خطابها، للتوجه إلى المعضلة الأنثوية في زمن الصراعات والحروب، ولكنها أيضا تسعى لأن تفك الأقواس، وتحمل الكثير من الدلالات التي تحيل إلى حضور الطارئ من أشكال الاغتصاب، الذي يتأتى من الداخل والخارج ضمن تكوينات دلالية أشبه بخطاب طباقي لوجود الأرض ـ الوطن والمرأة التي تنتهك مجتمعة بفعل العوامل الداخلية والخارجية لتتحول إلى نموذج من نماذج المحاكمة الكلية للأطراف كافة.
في الختام، نخلص إلى رواية لا تنقصها دعائم الرؤية الإنسانية، فضلاً عن التشييد السردي القائم على تفعيل الصيغ الحكائية ضمن مبدأ التبادل في الصوت السردي بهدف تمكين وجهات النظر، ولكن الأهم خلق تعالق القارئ مع وعي الشخصية عبر الاقتراب من نبضها، ووظائف تفكيرها من خلال الحوار الداخلي، أو زوايا الرؤية، والتبئير، في حين أن الرواية على الرغم من بعض الإغراق ببعض التفاصيل بدت مشدودة أو محكمة في رهن القارئ لعالمها، وعدم تخليه نتيجة استغراقه في تتبع مصائر تلك الشخصيات، والتعلق بنهاياتها.
كاتب أردني فلسطيني