روايته الموسومة «زقاق الجمجم» الصادرة عن دار ناشرون وموزعون -الآن 2020، كان المؤلف على قدر كبير من التوفيق فيها، وهو يبتكر بأدوات التخييل السردي عالما واقعيا، يصعب علينا أن نكتشفه على الصورة الكلية التي جاء عليها، إذا ما حاولنا أن نقترب من جزئياته المتناثرة والمبعثرة والمتشظية في الواقع، وهنا يكمن سر العمل الإبداعي وخاصيته، فنحن لن نفلح في اكتشاف الجمال في الواقع واكتشاف القسوة التي حلت عليه، وفي أن نتواصل ونتماهى مع المشاعر الدفينة لدى الشخصيات، إلاَّ من خلال البنية التخييلية التي نسجها مرعي، عبر رؤيته الذاتية، ومن هنا تبدو أهمية الفنون الإبداعية، وفي مقدمتها الكتابة السردية بشكلها الروائي، لما تمنحه تقنياتها من حرية في الحركة أفقيا وعموديا، لإيقاظ الروح في الحيوات المهمشة، وقطع الطريق أمام مخالب الشيخوخة والموت من أن تمسها .
سلطة التخييل
لو قيض للكائنات الإنسانية في ذلك العالم الواقعي، الذي كنا نراه في ما مضى، ينبض بالحياة في مدينة الموصل القديمة، واليوم يكاد أن يختفي، والذي تمكن بيات من لملمة أشلاء روحه، بلغته وأسلوبه الخاص، لو قيض لها أن تملك خيالا مثل أي مبدع سارد، لاختارت وبشجاعة، أن لا ترى اللحظة التي تحولت فيها اليوم إلى مجرد صور فوتوغرافية، نتبادلها بحنين افتراضي على صفحات فيسبوك، وبقية مواقع التواصل الرقمية. لكن رواية «زقاق الجمجم» بما جاءت عليه بنيتها السردية من ثراء في التخييل، كانت بمثابة الصندوق الأسود الذي عادة ما يحتفظ بالحقيقة، من بعد أن ينهار الواقع وتسقط ذاكرة العالم في دائرة التزييف والتحريف فما الذي فعله بيات في روايته هذه؟ هل كانت النوستالجيا هي الدافع وراء كتابة هذه الرواية، على اعتبار أن «بيات الإنسان» جزء من الكيان الواقعي الخام، الذي نهل من منبعه «بيات الروائي»؟
أي قارىء يمتلك ذائقة مدرَّبة لن يجد أي معنى في هذا السؤال، ولو كان بيات منساقا إلى هذا الدافع المفترض في السؤال، لكانت النتيجة مختلفة تماما، ولن نكون مشغولين ساعتها في البحث عن القيم الفنية، بقدر ما سنكون أسرى لمشاعر الحنين لا أكثر، إلاَّ أن سلطة التخييل التي انحاز إليها وبقوة، هي التي أخذتنا إلى موعد آخر في الإخلاص للواقع، حيث اختلف فيه تعامل الزمن السردي مع الزمن الواقعي، منزاحا به إلى حيزٍ جرَّده من حمولته العادية المتداولة، فكان واقعيا أيضا، لكن برؤيته الخاصة، مانحا إياه شحنةً حادة التغضنات، استلهم حضورها المتدفق من وحي التعبيرية الألمانية (سبق أن أشرت إلى ذلك في مقال نشر في صحيفة «الصباح» العراقية) وهذا ما أتاح له فرصة أن يستدعي ظلال أزمنة، امتدت على مساحة شاسعة من تاريخ العراق، بدأت مع خمسينيات القرن الماضي، وانتهت إلى ما بعد عام 2003، ومن غير أن تترهل وتتفكك حبكة السرد. ولو لم يتحصن السرد بهذه الذخيرة التقنية، لسقط في دائرة مألوفة من تمظهرات الواقعية، التي عادة ما تلجأ إلى استنساخ الواقع المعاش، مثلما نجده في النماذج الكلاسيكية للأدب الاشتراكي الشيوعي.
عالم مُهمَّش
نحن أمام تجربة سردية تمثل انعكاسا لخيال الروائي، إزاء شخصيات محشورة في عالم بعيد عن واجهة المشهد العام، مع أنها تمثل بتفاصيل حياتها وأحلامها وكفاحها اليومي، وعواطفها وانفعالاتها، روح وجوهر المشهد العام، لأنها المعنية بالتواريخ والأزمنة والانقلابات، والأنظمة والحروب، والحرية والقمع. ومع كونها شخصيات مقصية ومغيبة تاريخيا وواقعيا، لكنها حاضرة دائما في متن كل ملحمة ومشهد تراجيدي، ووحدها تبقى حية في نهاية كل لعبة قدرية، رغم الثمن الباهظ الذي تدفعه.
الشخصيات في هذه الرواية لا تحتاج في مكانها – الذي يبدو خارج النص الرسمي للتاريخ – إلى نور الشمس حتى تتمكن من رؤية الأشياء، التي تحيطها بوضوح، وحتى تنبض القلوب التي تحتويها بين أضلعها بألوان المشاعر الإنسانية، فهي لا تحتاج إليه من الخارج، لأنها تحتفظ به في داخلها، ليس لأنها كائنات ملائكية، لكن لأن أُلفة المكان غير منفصلة عن كينونتها الإنسانية، ومن الصعب الفصل بينهما، بمعنى أنهما كيان واحد، وما من مسافة تعزل بينهما، لذا سيكون من الطبيعي أن تكون هناك لغة سرية متبادلة بين الاثنين، ولا أحد من خارج هذه «المجرّة» يمكن أن يفهمها ويفك شيفراتها سواهما، وإذا ما حاول سيفشل، ولكي ينجح في محاولته يتوجب عليه أن ينتمي بوجدانه إلى المكان، بجدرانه وأزقته وشبابيكه وسواقيه، لأن هذه المفردات هي التي صاغت للساكنين في «زقاق الجمجم» أغاني أفراحهم، وتراتيل أحزانهم، وحكايات عشقهم، ومآثر أبطالهم.
روح المكان
المكان في «زقاق الجمجم» بخصوصيته المغرقة في المحلية الموصلية، من حيث المعمار، والمواد التي تبنى بها البيوت (الحجر والجص والمرمر) هو الذي يحمي الأرواح من الخطر، حين يقترب ويدق أبوابها، وليس العكس، وإن كان العكس أيضا، لا يبتعد أبدا عن هذه الحقيقة الواقعية، قبل أن تكون مجسَّدة عبر التخييل السردي. هذا يعني أننا أمام كائنين ينبضان بالحياة والأسرار، طالما هما متآلفان ومتداخلان ومتماهيان، وليس من الممكن أن تكون لواحد منهما حياة إذا ما غاب عنه الآخر، فالحجر ليس حجرا، إنما دلالاته تمثل جلد الإنسان وشرايينه، التي يتدفق فيها دم الحياة، وإذا ما تأملنا الشخوص والمكان نجدهما لا ينشطران إلى عنصرين منفصلين كل واحد منهما يذهب باتجاه معاكس أو مواز للآخر.
خيوط الزمن السردي
الزمن في هذا العالم الهامشي، الذي تجسد في الرواية ليس زمنا رياضيا محسوبا بالثواني والدقائق والساعات والأيام والسنين، إنما زمن يحسب بالمشاعر والهواجس والأمنيات، بكل ما فيها من تواشج وتلاحم وتقاطعات، زمن تكتبه حكايات وأحداث وشخوص تعجز العين الواقعية أن تبصره، وحدها مخيلة الفنان المبدع، تملك القدرة على أن تنسج خيوطه غير المرئية، وتكشف عما يخبئه من جمال وسحر كامن في شقوق الجدران وأخاديد الوجوه الشاحبة وقساوة الملامح .
يبدو أن بيات مرعي قد اكتفى بأن نقر بسبابته على الجدران التي هدمتها القذائف، ومسَّد بباطن كفه على الحجر المتناثر من أنقاض البيوت، التي يعرفها جيدا في منطقة شارع فاروق، فكانت تلك شيفرة متبادلة بينهما، لتبدأ شخوص الرواية في سرد حكاياتها، وليختزنها في ذاكرته دون حاجة إلى أن يدونها في دفتر ملاحظات.
كاتب عراقي