يخوض الروائي الفلسطيني طلال أبو شاويش في عمله الأخير “إيربن هاوس” مغامرة نادرة في المنفى ومعنى أن تكون محاصرا وسجينا في سجن جماعي اسمه غزة، تبحث من خلاله عن حياة جديدة وبداية لك ولأهلك. ولكن البطل/ راوي الكتابة يختار العودة إلى السجن الأكبر نظرا للحميمية التي تفتقدها عندما تغادر الوطن وتصبح مجرد رقم أو رقم غرفتك من قطار الراحلين الباحثين عن حظ أو فرصة في عالم “الحرية”، وفي الحقيقة فأنت تحول نفسك إلى سجين، مجبرا أو مختارا. ويكتسب في رحلة السجن الكبير معنى الانتظار، شكلا حدوده بيت اسمنتي تحسب فيه عليك حركاتك وتعيش في غرفة ضمن حيوات مختلفة ممن طردتهم الحروب وشردتهم الديكتاتوريات، وكل واحد منهم له حكايته وشروطه للبحث عن الحياة التي يراها. والكل يعتبر نفسه في رحلة عابرة قد تنتهي بالخروج من السجن الصغير أو الرحيل من حيث أتوا. واللافت أن رحلة بطل رواية أبو شاويش الذي غامر في الرحيل من غزة المحاصرة وخلف وراءه عائلة محملة بأمل الخروج من عذاب وجحيم اليوم الفلسطيني يختار في النهاية العودة إلى مكانه في غزة الذي اعتقد أنه مفتوح على الإمكانيات. وبين الخروج من غزة والوصول إلى إنكلترا والعودة منها يتعلم البطل الكثير من الحقائق عن حياة المنفى والاقتلاع. والفرق بين رحلة الوصول والعودة هو أن البطل الذي ذهب محملا بحلم البداية يكتشف أنها ليست موجودة أبدا، فمن بين الوجوه الكثيرة التي يلتقيها ويؤلف قصصها ويتعرف على الألم القابع وراءها يتماهى معها أحيانا ولكنه يكتشف أن خلف اللحظات العابرة في الحب والمواجهة تقبع أنانية لدى من يعتقد أنه أحبهم بل وانتهازية تنهي كل أمل بالصدق الإنساني أو الحب الحقيقي. فالبطل المشتت في لحظات الانتظار يقترف الآثام التي يعتقد أنها تخفف عنه وحشة الطريق ليكتشف أنه كان ضحية استغلال، فما يبدو وكأنه براءة وحزن يتحول في المنفى إلى أنانية ووحشية خاصة عندما يصبح الوصول قاب قوسين أو أدنى. وعندها تصبح العلاقة شيئا من الماضي ولا أهمية لها.
ولا تشرح رواية أبو شاويش الشرط الإنساني للمنفي بقدر ما تكشف عن هشاشة المنفيين وضعفهم وعبثية الرحلة. فأحيانا تفرض الرحلة على البعض خيارات متطرفة وتنتهي بنهايات مأساوية وفي المرات الأخرى تنتهي الرحلة بالخيبة والعذاب. لكن بطل أبو شاويش يكتشف أن رحلته للبلد الذي كان سببا في معاناته لا معنى فيه للحرية ولا يستحق أن يضيع فيه طالب اللجوء، أي البطل سنوات أخرى من حياته في انتظار لا طائل له، استئنافات ومرافعات ومحامين بدون جدوى سوى التشتت والضياع. ففي نهاية الرحلة واختيار البطل العودة إلى بلده يكتشف أن الضياع في السجن الكبير أفضل، بل على العكس فالعودة هي فعل مقاومة وتشبث بالحلم الذي تمسك به وهو نائم بين جدران غرفته الإسمنتية ويسجل يوميات انتظاره من خلال رسائل هاتفية لصديقه المنتظر أخباره في غزة.
يستحضر الكاتب رحلة البحث عن حلم في دنيا الأحلام -الحرية، الديمقراطية وحقوق الإنسان من مركز استيعاب لطالبي اللجوء في بريطانيا “إيربن هاوس” وهو المكان الذي ينتهي به البطل ويعيش معظم وقته ضمن نمط من الحياة وتحكم بوقته ونومه وخروجه ودخوله وزياراته لأصدقائه. ورغم تصميمه على أن يظل وحيدا في هذا البيت إلا أنه يكتشف من حوله ويقيم شيئا فشيئا علاقات مع من يعيشون معه من لاجئين وصلوا إلى المكان من أنحاء العالم. وكان الأمر صعبا على شخصية قوية مثل صاحبنا الذي يحمل رؤية فكرية وسياسية عن الوطن والقضية.
في حكاية عاصم حداد الكاتب الذي يريد أن يخرج من واقعه، القصف، الجوع، الخوف من السلطة التي تريد أن تحميه من خلال منعه من الكتابة، وهنا هي سلطة حماس محاولة للشهادة على الظلم.
وعاصم حداد الذي جرب السجن أثناء حكم إسرائيل للقطاع معني أكثر بالتجربة في حد ذاتها، فهناك حياة طبيعية في شارع عمر المختار وعلى الشاطئ الغزي ولكن حركة الناس داخل القطاع هي رهن ما يجري على معبر رفح مع مصر وما هي الأخبار وإن كان يعمل أم لا، وكم هي المدة التي سيفتح فيها ومن جاء اسمه على قوائم الحافلات ومن لم يرد اسمه. ومن ضاع حظه من الدراسة وفرقه المعبر عن أهله في الشتات. وهي بالضرورة عن التجار الطفيليين من الذين يعتاشون على الأزمات وربحوا منها كما في كل الحروب. يتحدث مع صديقه إبراهيم حلمي عن مشروع كتاب مشترك كما فعل جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف ومن هنا فتجربة المنفى هي جزء من مغامرة عاصم في طلب اللجوء في بريطانيا.
وسواء كان الراوي محقا في نواياه أم لا أي مجرد التجربة أم البحث عن حياة جديدة كما يبحث الآخرون عن حياة فهذا أمر آخر، فعاصم متعلم ويعرف المدن وله في ذكريات ويتحدث الإنكليزية، أي لا يعاني من مشكلة التواصل اللغوي والثقافي. في القاهرة عندما يودع غزة ويمر عبر الطريق الصحراوي إلى القاهرة بعد ساعات من الانتظار على المعبر ينزل في فندقه الذي يعرفه ويبحث عن أصدقائه، وهو يحب القاهرة، بما تتجلى عنه من بعد ثقافي وذاكرة. وتبدو أيامه في القاهرة هي ساعات الحرية التي يقضيها قبل أن يهبط في الفضاء الإنكليزي ويكتشف أن مكان انتظاره الجديد، هو إيربن هاوس، شارع الحب، ويكفيلد، يوركشاير. فهذا المكان بعيد جدا عن لندن التي يحلم أن يعيش فيها أي مثقف، فسجنه الجديد الذي تغلق أبوابه في ساعات معينة وتقدم فيه الوجبات في مواعيد محددة وهناك قيود على التدخين، وقوانين تمنع أخذ الطعام إلى الغرف، وحمامات مشتركة وموعد الدخول إلى المبنى والخروج منه.
ولهذا كان أول شيء عمله عاصم بعد أن دخل سجنه الجديد هو أخذ حمام دافئ والتمدد على فراشه والبحث عن طريقة للتواصل مع صديقه في غزة أو كتابة يومياته. وكما في كل الحالات للبيوت أسرارها وسيكتشفها لاحقا لكنه في اللحظة الحالية ليس على عجلة من أمره فسيعرفها لاحقا.
ذكر إيربن هاوس الكاتب بالحياة في بالسجن الإسرائيلي الذي سجن فيه والشروط المفروضة على المعتقلين. وهناك مفارقة بين إيربن هاوس والسجن المخصص للمعتقلين الأمنيين الأشداء.
لا تخلو رواية أبو شاويش من محاولات للمقاربة بين سجن وسجن. فعلى خلاف الحرب في غزة فسكان إيربن هاوس جاءوا من حروب طويلة لم تنته ولا أمل لهم بالعودة. أما غزة فالحرب فيها تندلع لأيام أو أسابيع ثم تعود الحياة إلى مجاريها، فهي في دوامة بين الحرب والحرب.
في داخل قصة عاصم قصتان تلخصان التجربة الإنسانية في المنفى وتحكي كل واحدة منهما ملمحا عن الألم والمعاناة وبالضرورة عن الوفاء والحب. وفي داخل كل قصة قصص عن الظلم وبشاعة الحرب والتطرف كما أن نهايات كل منهما تختلف من ناحية الخيار الذي اختاره، ففي حالة تيمبا المسيحي الصومالي والفنان فقد انتهى به الأمر بعد رحلة تشريد واجتياز بحر المانش وحيدا في مجاهل سوريا والتطرف. أما ريفال سليماني التونسية فلم تخل قصتها من تطرف من ناحية علاقتها بزوج متطرف أجبرت على الزواج منه وهي صغيرة ثم تحررها منها ليعود مرة أخرى ليلاحقها فتهرب منه إلى بريطانيا وهناك تبدأ حياة جديدة ناجحة بعدما وجدت أنها على قائمة الترحيل ومساعدة عاصم لها لتتنكر له رغم ما جرى بينهما من لحظة عاطفية جامحة انتهت بحصول ريفال على حق الإقامة.
في رواية عاصم بحث عن معنى أن تكون منفيا فلسطينيا في البلد الذي كان السبب في معاناة أجيال فلسطينية لحظات من الاكتشاف ومحاولة الانتقام أحيانا والعمل على التوعية وتأكيد معنى الظلم الذي أصاب فلسطين وسكانها، وليس غريبا أن يشارك بطل الرواية في تظاهرات وفعاليات التذكير بمئوية بلفور. بين الوصول والعودة لم يكن هناك بحث عن منفى جديد بقدر ما هي عودة للوطن واكتشاف لحقيقة أن لا شيء يعدل الوطن، كما قال أمير الشعراء “هب جنة الخلد اليمن”. وبين هذه العودة هناك قضايا أخرى تتعلق بالمصير الإنساني المشترك والحروب والويلات التي تدفع الناس للبحث عن خيارات جديدة لحياتهم دونما التخلي عن هويتهم الحقيقية. ففي بوتقة غزة تصنع المعاني، العالم هو غزة وهي العالم على اتساعه وما فيه، وبعيدا عن أهميتها الجغرافية فغزة حتى في تعبها وإنهاكها تظل رمزا للمشردين والضائعين وهي وطن من لا وطن له.
في محاولة أبو شاويش تسليط الضوء على بعد التشرد، يكشف عن خريطة العلاقات في المنفى والطبيعة الإنسانية وجدوى الفن والموسيقى والطب الذي لا يمنع من تحول البشر لمنتقمين وحاقدين، ولكن غزة وحدها هي القادرة على النهوض من كل حرب تستخدم فيها إسرائيل ما لديها من سلاح متقدم. إيربن هاوس لا يكشف عن حرية الإنسان بقدر ما يذكر بسجن المحتل وعبثية الانتظار.
طلال أبو شاويش: “إيربن هاوس”
مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع، غزة 2018
239 صفحة.
ممكن رابط تحميل الرواية إلكترونيا