■ أثارت المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب محمد صالح البحر عاصفة من الجدل والنقد، فقد وقف الكثيرون عند شكل الكتابة التي تجاوزت تيار الحداثة، بكل ما فيه من غرائب الصور الإبداعية وتكويناتها الأدبية، ولم يكن ذلك رفضاً لتطور مفهوم الحداثة بقدر ما كان دهشة طويلة من طبيعة التوجه الأدبي الغريب للكاتب الشاب، الأبــــرز بين أبناء جيله، وجرأته في استحداث مضامين ومدارات لحكايات وأطوار وأبطال وشخصيات بنكهة التمرد والعزوف عن الثابت والمألوف والتقليدي، حسب وجهة نظره ومبرراته وحدود الموهبة التي يمتلكها والمساحة التي يقف عليها في مسطح الإبداع الجديد والمعاصر.
تبدأ المجموعة القصصية «قسوة الآلهة» التي تقع في 117 صفحة من القطع المتوسط كما هو معهود بإهداء يمثل عبوراً بلاغيا خاطفاً على القصيدة، كأنه تصوير لعلاقة مستحيلة بين ضدين يفترض الكاتب تلاقيهما في المعنى على نحو مجازي بارع هو بالتأكيد نقطة بداية في قصيدة لم تُكتب وتم ادخارها لتكون فاتحة القصص، يقول الإهداء.. إلى النور الذي يكمن في دواخلنا، متدثراً بهدوء الموتى.. لعله يحيا، وهنا يكون الاشتباك حتمياً منذ اللحظة الأولى، إذ كيف يكون النور متدثراً بهدوء الموتى، راجياً الحياة؟ أليس الموت نفياً للحياة والرجاء نزوعاً مستحيلاً؟
كان حرياً بالكاتب الموهوب والموعود بالجوائز أن يتبع منهجية القصة القصيرة التي يعرفها ويفهمها القارئ الطبيعي غير الحداثي.
سنعبر إشكالية الإهداء لندخل في عمق القوام الأصلي للمجموعة، وهي القصص ذاتها ونتوقف كثيراً أمام عنوان الإصدار «قسوة الآلهة»، أو بالأحرى نتسمر أمامه لأسباب يتعلق أولها بإيحاء العنوان وثانيها وثالثها يتصل بمضمون القصة ذاتها وعلاقتها بالعنوان المثير، ولنذهب إلى فقرات من القصة «شعاع الشمس الذي يطرق نافذتها الآن، لم يأتها اليوم كإشارة لانتهاء ملاك العذاب من مهمته مثل كل حُلم، بل متواكباً مع صوت «وردة الجزائرية» وهي تشدو بأغنيتها الجميلة «طبعاً أحباب» في قوة وعذوبة، التي تضعه كنغمة منبهه في هاتفها الجوال»، انتهى الاقتباس من النص الأصلي ويأتي دور القراءة على نحو محايد، فالكاتب يقول، شعاع الشمس الذي يطرق نافذتها الآن، لم يأتها اليوم.. والسؤال هنا، كيف يطرق الشعاع نافذتها الآن ولم يأتها اليوم؟ هل يستقيم سياق الجملة في حدوث الشيء ونفيه في اللحظة ذاتها؟ وهل للجملة معنى ودلالة لا نُدركها نحن القراء، ثم ما هي علاقة ملك العذاب بهذه الصورة الغامضة، وما علاقة الاثنين بصوت وردة الجزائرية «طبعاً أحباب»؟ ثم وهو الأهم، ما هي علاقة هذه التهويمات بالعنوان المثير للمجموعة القصصية كلها «قسوة الآلهة»؟ أتصور أنه لا توجد ثمة علاقة أو صلة بين كل هذه الوحدات المتصلة المنفصمة، سواء مجازاً أو حقيقة، لأننا وحسب المفترض أمام قصة قصيرة لها بداية ونهاية ومضمون ومعنى ولسنا بصدد الكلام عن قصيدة شعرية تحتمل هذا الخيال الجامح أو الشطط البادي في النص على نحو غير مقنع وغير ممتع.
الكاتب محمد صالح البحر وهو عضو الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر، لأكثر من دورة، وعضو لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة، طبقاً لما ورد في سيرته الذاتية المنشورة في الإصدار نفسه، وهو حاصل على العديد من الجوائز المعتبرة، تستهويه هذه النوعية من الكتابة فوق الحداثية التي لا شك تُدهش القارئ وتأخذه إلى أبعد من إطار النص الأدبي ومضمونه، فيحاول إقناع نفسه بأنه أمام إبداع مختلف لا تستوجب طبيعته الالتزام بشروط الأدب التقليدي، ولا منطق السرد القصصي المعهود منذ فجر القصة القصيرة، ولهذا تتفاقم ظاهرة التمادي في الكتابة غير المعقولة وتوضع لها عناوين براقة من عينة الحداثة والنوعية، إلى آخر مستحدثات الإفك الأدبي والأجناس المشوهة الغريبة.
في قصة أخرى تحت عنوان «الأشياء الصغيرة» يكتب البحر.. أريد أن أخبرك عن الأشياء الصغيرة لعلك تنتبه حين تقذفك الحياة بها، إنها بلا ماهية ـ لكنها تشبه إلى حد كبير ذلك الحزن اللامتناهي والكامن بعفوية وبراءة في صوت أمينة رزق ونظرتها المنكســـرة بلا سبب درامي ـ الأشياء الصغيرة لا تنتفي بالتقادم ولا يعتريها النسيان بمرور الزمن، ولا أحد يستطيع الإمساك بها سوى عزرائيل في لحظة الموت.
هذه مقتطفات من قصة أخرى لها السمات والمواصفات نفسها، مُغرقة في الغموض والاسترسال بلا موضوع أو معنى، مجرد صور متتابعة ومتوالية، يتم ربطها قسراً بشخصيات ومفاهيم بدون وجود رابط حقيقي يبرر ما يسوقه الكاتب من مترادفات وأخيلة لا تُفضي إلا للفراغ.
كان حرياً بالكاتب الموهوب والموعود بالجوائز أن يتبع منهجية القصة القصيرة التي يعرفها ويفهمها القارئ الطبيعي غير الحداثي، وأن لا يستغرق كثيراً في الاعتناء بالشكل الغرائبي الجديد على حساب المضمون والمعنى والصنعة.
٭ كاتب مصري