اقتحم الروائي طارق الطيب في روايته الجديدة «لهو الإله الصغير» عوالم سردية تطفح بالغرابة قدر احتفائها بالرعب، استنادا إلى المتغيرات المتلاحقة التي عصفت بالثوابت الإنسانية، والقيم الحضارية، وهزت الاستقرار البشري. واستلهم الروائي أسئلته الموضوعية من المعضلة البيولوجية المطبقة على أنفاس إنسان اليوم، رغم تطوره الصناعي والاقتصادي والتكنولوجي، ورغم الثورة الهائلة التي حققتها العلوم الحقة، حتى إن مسألة التحكم في الطبيعة، أو الانتصار عليها، أو ترويضها، إشاعة سرعان ما انكشف وهمها البرّاق، بانتشار وباء غامض وفيروس خفيّ خنق العالم، مقحما إياه في دائرة معتمة من الخوف والهلع، حتى كاد يعيد البشرية إلى عصور الكهف والعراء والظلمات.
بعزفها على الوتر النفسي لإنسان ما بعد الحداثة، ومعالجتها للواقع الافتراضي، وولوجها مغاليق المستقبل البشري الغامضة، الملفوفة بمخاوف عميقة من احتمالات حصول كوارث تعيد الحضارة الإنسانية إلى عهودها الأولى، تأسيسا على مؤشرات باتت ملموسة: (اصطدام كوكب ضخم بالأرض، حدوث تسونامي ضخم يقبر جغرافيات ممتدة، زلازل، براكين، حروب بيولوجية، انفجارات نووية، أخطاء علمية تسبب كوارث مهلكة، ظهور أوبئة شديدة العدوى…) تكون هذه الرواية قد نفذت إلى المناطق المعتمة في لاوعي الإنسان المعاصر، لتتأمل سيناريوهات الآتي الملغوم، مصورة مكابدته لقساوة حياة مرعبة ألفى نفسه متخبطا في شركها دون سابق إنذار، يتأرجح بين أقدار تتلاعب به مثل طائر تمزقه الحيرة والعجز في كمين محكم، مستلهمة أوجاعا ممكنة، ومآسي قلما ينتبه إليها الناس، وهي وشيكة، أقرب إليهم من حبل الوريد، بسرد متنام يرسم المتاهة بإحكام، وكأنها فيلم رعب يشارك فيه المتلقي، ليعيش الضياع نفسه الذي لفّ حبائله حول عنق الشخصية الرئيسة، وتاه فيها في دوامة مصير مجهول تتناوشها مخالب القلق والانهيار النفسي.
فوجئ شمس، بطل الحكاية، ذات صباح روتيني في عالمه المهجري النمساوي، وهو يستحم، بفقدانه حاسة السمع، فقاده انزعاجه إلى حقيقة مرة: أن الشوارع فارغة من السّاكنة، لا طائر يطير ولا وحش يسير ولا حتى ثعبان يزحف، وكأن ثقبا أسود ابتلع ما فوق الأرض.
حكاية كابوسية
تقود الرواية متلقيَها إلى متاهة رهيبة، لتزجّ به، رفقة الشخصية الرئيسية شمس، الرجل الشرقي الوافد إلى فيينا، بحثا عن أفق للعيش أرحب، وكرامة تليق به مثل أي بشر، ليجد نفسه بين عشية وضحاها فريسة بين فكي كابوس مفتوح، لا يعرف كيف يتخلص منه، وهو يصارع خواء قاهرا، حتى إنه لا يعلم هل هو حيّ أم ميت (أجزم أن وراء هذا يدا عليا لها هذه السطوة والجبروت، لتفعل كل هذا التخريب أو الترتيب، أو أنني ميت بالفعل، وأعيش في حلم أبديّ هو حياة جديدة أو موت دائم) ويسعى بكل ما في وسعه ليفهم ما يجري حوله، وما يصادفه من وقائع مخيفة لا تخلو من غرائبية، دون جدوى، بحكم أن العالم تغيّر من حوله، واستحال مجرة أخرى، تستعصي على المجاراة، وتأبّى الاستيعاب!
فوجئ شمس، بطل الحكاية، ذات صباح روتيني في عالمه المهجري النمساوي، وهو يستحم، بفقدانه حاسة السمع، فقاده انزعاجه إلى حقيقة مرة: أن الشوارع فارغة من السّاكنة، لا طائر يطير ولا وحش يسير ولا حتى ثعبان يزحف، وكأن ثقبا أسود ابتلع ما فوق الأرض. وفي الوقت الذي بقيت فيه البنايات والمؤسسات على حالها، فقد اختفت الكائنات الحية، وعمّق من حيرته إصابته بالصمم، حيث ما عاد يسمع أي صوت. جرب شمس فعل أي شيء، مخاطرا بنفسه، وسلامته، ليستوعب ما يحدث له، وما وقع لمدينته، والأرض والبشرية من حوله بين عشية وضحاها، لكن فعله ذلك، وتصميمه الفضولي عمقا ضياعه النفسي والمادي، وخامره شك بأنه ميت، ويعيش لحظة البرزخ في اضطراب، كما خُيل إليه أن وباء، أو جائحة، أو وحشا ما قضوا على كل شيء، دون أن يتركوا خلفهم أثرا، فتضيع هويته، ويُشل ذهنه عن التفكير كأي إنسان بدائي جرفته الأقدار إلى أرض لا قبل له بها، أو كآدم بعد ارتكاب خطيئته، أنزل إلى اليابسة عاريا إلا من ورقة شجرة حناء يستر بها عورته، وتتضاعف مخاوف البطل شمس، مع احتمال نفاد المواد الغذائية، أو إصابته بمرض ما، أو تعرضه لحادث طارئ قد يكلفه حياته، في غياب من يسعفه، وهو الوحيد في مدينة أشباح.
يفطن بالصدفة، إلى الكتابة بوصفها فعلا وجوديا، قد يستعيد بوساطته مركبه الغارق، ويسترجع كيانه الممزق، ويهتدي إلى تدوين سيرته الذاتية كما كان يحلم منذ زمن بعيد، قبل أن يصدمه هذا الواقع الغامض، قبل أن يُسقط في يديه، بعد أن يكتشف فقدانه الذاكرة، وكأنّ ممحاة ما مسحت ذكرياته، ومتراكمه من الخبرات الحياتية، أو كأنّ عصابة إجرامية محنكة استأصلت علبته السوداء من دماغه في غفلة منه، أو كما لو أُجريت عليه تجربة علمية ما. يعصر دماغه عبثا، فلا يجود إلا بمعلومات مشوشة يعتريها التناقض، ثم تختفي مرة أخرى، حتى إنه لم يتذكر ما فعله، أو من التقاهم قبل حدوث الكارثة، لذلك، عمد إلى مخاتلة السهو والنسيان بتدوين كل شيء يتمكن من القبض عليه مهما كان يسيرا، إذ بصعوبة يستعيد اسم والده ووالدته وأخواته، وبلده الأصليّ، ويسترجع لحظة ولادته المأساوية، وهو يسمع القابلة تقول: «لقد قتلها الولد» وهو الذكر الذي طال انتظاره من قبل أسرة كل مواليدها من الإناث.
عقب يأسه من استعادة فيينا لوضعها الطبيعيّ المعتاد، فكّر شمس في العودة إلى بلاده المشرقية، بلاد الأهرامات على ما يذكر، فيخوض رحلة بحرية مضنية أشبه ما تكون بالحلم، مفككة ومتقطعة، حتى إنه لا يستعيد المدن التي مرّ بها، ولا كم عدد الأيام التي استغرقها في الإبحار، ما إن نوى السفر بحرا حتى ألفى نفسه إزاء عوالمه الأولى التي عاش فيها طفولته، فيستعيد نتفا من ماضيه المؤلم: (موت ابنة عمه حرقا، موت أمه تأثرا بولادته العسيرة، استياء الأب من أخواته الإناث، وتعنيفه الأم لتأتي بالولد، تلطيخ الوالد يديه بدم الأضحية، وما أثاره ذلك الفعل في نفسه من هلع وتقزز، حادثة الختان المؤلمة…) وتبدأ ذاكرته في العمل تدريجيا، وهو يروضها ويحفّزها بفعل الكتابة والتدوين، حيث يلتقط الذكرى في حينه، دون تفكير في شكل صياغتها، مؤجّلا ذلك إلى حين، حتى لا تضيع منه من جديد. وفي الأخير، يحار البطل شمس في أن يصنف ما وقع له في دائرة الكوابيس والأحلام، أو الحقيقة المرة التي لا يريد تصديقها، يقول السارد الشخصية: (استيقظت مجددا في فيينا، وأنا على سريري، كسولا لا أريد أن أقوم من مكاني. أتأمل بقعة الالتهاب، وأبتسم في خبل أبله. صحوت، وأنا أفكر في حالي ووحدتي وأحلامي وهواجسي. هل أسريت ليلا في رحلة أزلية تطوف بي ملامحها الآن، في وضوح يكاد ينفيها كحلم؟ كأن كل ما طرأ على ذهني وهم. وأنام وحدي، وأصحو وحدي، وأسير في المدينة وحدي).
تعدد الأصوات
تعدد أصوات السرد في هذا النص، بما يليق برغبة الروائي في تشظية محكيه، انسجاما مع المعطى الأطروحي المؤسس للتصور الفكري، والخلفية الثقافية التي انبثق عنها هاجس الكتابة، ففضلا عن صوت السارد الشخصية، وهو يروي ما يحصل معه من أحداث مفاجئة، مقتفيا أثر خيوط دقيقة تقوده نحو التعرف عن ذاته، وهويته، وعمن يكون، في زخم تدفق التحولات من حوله بصيغة غامضة وغير مفهومة، ويستعصي عليه تقبلها ذهنيا، قبل أن تعن له الرغبة في توثيق ذاكرة تهرب منه، نصادف صوتين متلازمين يعقبان على مقول السارد الرئيس، تارة بغاية التصحيح، وتارة أخرى بغرض التدقيق وتفسير ما يجري.
أول الصوتين السرديين الموازيين، هو صوت العارف، القرين الأرضي لشخصية شمس، والأقرب إلى نفسه، والمطلع على ما يكتم من أسرار، استنبته الروائي ليكون الوجه المخفي للشخصية، ومرآتها المستترة بقناع الكتمان والتستر والانتقاء على مستوى البوح، أو بالأحرى، ليكون لاوعيه المنفلت على الورق في غفلة منه، يقول السارد على لسان شخصية العارف، وهو يقدم نفسه للمتلقي: «مهمتي الموكولة إليّ، أنا العارف، أن أسدّ ثغرات الحكاية، وأرمم شروخها غير المتعمدة وانحرافاتها المجملة، أنا العارف لي علم بما يحدث، وأعرف ما لا يعرفه كثيرون وكثيرات.. أنا أقرب الأقربين إلى أسرار شمس، قرينه الأرضي، وأعلم عنه كل ما يفعل، وما يخفي، أجاهد في أن يصل صدى صوتي إليه».
يتجسد في المتن الروائي بشكل واضح، عبث المصائر، وغرابة المنطق الذي توزّع به الأدوار والوظائف والعلاقات في عالم فوضويّ يترنّح على حافة الانهيار، نتيجة تراكم حماقات البشر أنفسهم.
أما ثانيهما، فهو صوت «الكاشف» الذي يدّعي امتلاكه لعلم من الغيب، واطلاع على أسرار الخلق، ورؤية ما لا تراه المخلوقات من موقعها الأرضيّ. تكفل بسرد جوانب من حكاية شمس في بعدها العلويّ المرتبط بالمصائر والأقدار المسطورة في السماء، بينما تكفل العارف بسرد ما يتعلق بمجازفات شمس على أرض الواقع، في اتصال مباشر بما يعتقد، وما يضمر، وما يظهر، وما يفعل، مقتحما صندوق نواياه وأسراره وأفكاره حتى قبل أن تتجسد في أفعال وأفكار. هذا الإجراء الفني لا يعدو كونه تكتيكا سرديا، أو حيلة من حيل الحكي، استعان بها الرّوائي ليفكك المتن، ومعها الشخصية، ومكوني الفضاء والزمان، والعالم السردي الذي يؤطر كل هذه المعينات والوسائط السردية حتى تلائم حركية الأطروحة، ويوافق حالة الكينونة الإنسانية، كما تمّ تصويرها وتمثيلها. فالسارد مشتت الذهن، ضائع في دوامة مبهمة، لا يخبر كنهها، ولا يستطيع اتخاذ قرارات صائبة بصدد ما يخوضه من عراك ضد حالة التيه، والتلف، والقلق الوجوديّ، حيث وجد ذاته بين عشية وضحاها، منشطرا تماما كحكايته، أو كالتمظهر المادي الذي تجسد فيه خطابه، لا يثبت على سبيل، مفكّكا بين الحلم والحقيقة، والموت والحياة، والسّفر والاستقرار، والانكشاف والتواري، ومجردا من ذاكرته، وصلته بالعالم الذي يعيش فيه.
إن توزيع السرد على ثلاث قنوات بوعي عال، وترتيب دقيق مفكر فيه من الروائي، بقدر ما هو تقنية سردية تغني الخطاب، وتقدمه بشكل حداثي يبتعد عن الخطية والنمطية، فهو أيضا، رؤية للعالم، ونظرة إلى الذات ووجودها في واقع متوتر، وتموقعها في سيرورة سريعة التحول، تكاد تمحو أثرها بوصفها إنسانا له عقل، ومنظومة قيمية، وكيان عريق، وبالأحرى، فهو استحضار لتكون الوعي وشخصية الفرد، من وجهة نظر فلسفية وسيكولوجية، واستدعاء للفروق العملية بين الأنا، والأنا الأعلى، وهو، وتأثير كل مكون على الآخر، وطريقة اشتغاله في الوضوح والسرّ، خاصة حينما يتعلق الأمر بقضية بوح فردي، وتشغيل للفكر الذاتي في تدوين ذاكرة، أو كتابة سيرة، فكان لا بد للكاتب من مراعاة هذه الفروق، بإعطاء الفرصة لكل بعد من أبعاد شخصية شمس في أن تنكشف تلقائيا، لتبرز جانبا من جوانب شخصيته، وخلق سجال بينهما يصل إلى حدّ التناقض والجدل والاختلاف على مستوى سرد الوقائع، وتحليلها، وتفسير ما يحدث للفاعل الرئيس في القصة والخطاب (شمس).
يتجسد في المتن الروائي بشكل واضح، عبث المصائر، وغرابة المنطق الذي توزّع به الأدوار والوظائف والعلاقات في عالم فوضويّ يترنّح على حافة الانهيار، نتيجة تراكم حماقات البشر أنفسهم، وإن كانت الرواية تسند فوضى الوقائع والأحداث والمتغيرات المستحكمة في التحول الكونيّ إلى عوالم غامضة تتسلى بترتيب الاختبارات الكارثية التي تجتازها البشرية بين الحين والآخر، غير أنها لا تتردد في النقد الساخر لمن يتقمصون أدوار الآلهة، ويقودون العالم صوب خرابه بعقلية طفل يتسلى بلعبة، دون أن يفطنوا إلى بشاعة أفعالهم مهما تقنعت واختفت وراء بريق مزيف سرعان ما انجلت دناءته وخسته.
ناقد وروائي من المغرب
يجب احترام قيمة اللفظ و دلالته و عدم العبث به لجذب الانتباه و للتعبير الفوضوي عن الاوهام