تتخذ أعمال الروائي الافريقي الأمريكي جيمس بلدوين موقعا متقدماً في الذاكرة الأمريكية، بوصفها أحد أهم روافد المدونة الأمريكية لمناهضة العنصرية، في القرن المنصرم. ولعل هذا الحضور ينهض على جملة من الأسباب تتعلق بالموقف الذي استند إليه في معظم أعماله، سواء أكانت أدبية أو فكرية.
يمكن القول بأن تكوين بلدوين الفكري ومنظوره يتضحان بشكل جلي في كتابه Notes of a Native Son وهو عبارة عن مقالات نشرها في عدد من المجلات الثقافية، وفيها يسعى إلى اكتناه موقعه، كونه ينتمي إلى الأمريكيين الأفارقة في وسط مجتمع أبيض، فيسعى بلدوين إلى إدراك وجوده الذي لا يراه في التراث الغربي أو الأوروبي، ومنها كتابات شكسبير، وموسيقى باخ، ومعمار الكاتدرائيات، كما حجارة باريس.. إنه منبت الصلة بكافة هذه الرموز، كونه ينتمي عرقياً وثقافياً إلى افريقيا، فالرموز السابقة ليست من نتاجه الحضاري، ولكنه في الآن ذاته غير قادر على الانتماء إلى أي تراث، بما في ذلك القبيلة أو الغابة، كما يقول.
تحاكي حياة بلدوين المجتمع الذي كان يكتب عنه، كونه ينتمي إلى العرق المختلف، حيث عاش في حي فقير في مدينة نيويورك، فتعرض لكل ما تعرض له أي افريقي أمريكي من العنصرية والتهميش، في زمن مقولات التفوق الأبيض، غير أن بلدوين لم يكن كاتباً ضيق الأفق، أو محصوراً في نطاق قضيته وعالمه، إنما تطاول ليقف إلى جانب الكثير من القضايا العادلة، والمعنية بالمحافظة على حرية الإنسان وكرامته، حيث عرف بمساندته للقضية الفلسطينية، فكتب عن القيم المشتركة التي يتقاسمها الكيان الصهيوني مع العنصرية البيضاء في الولايات المتحدة، بل ذهب لنقد المؤسسة الأمريكية لمساندتها دولة الكيان الصهيوني.
بدا بلدوين عنيفاً في نقده فاستجلب غضب المؤسسة الأمنية في الولايات المتحدة، ما دفعه للارتحال إلى فرنسا، وهناك وجد شيئا من السكون مكنّه من تحقيق شيء من التوازن. المطلع على أعمال بلدوين سيجد أنه يتكئ على منظور، أو رؤى واضحة، في ما يتعلق بنقده للمجتمع الأمريكي ضمن ما يُعرف بالطبقات العميقة للعنصرية المتجذرة، ولكن الأهم من ذلك الوقوع على حدود فلسفته التي تتعلق بالحياة، والقيم التي يؤمن بها، وهي تتصل برمزية المقاومة، كما نقرأ في رواية «لو كان لشارع بيل أن يتكلم»، وهي أحد الأعمال المركزية في مسيرة بلدوين.
أهم ما يميز هذه الرواية حبكتها التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة لا تنطوي على قدر كبير من التشبيك الدلالي على مستوى البنية والمنظور الأيديولوجي، غير أن القارئ يدرك عند المضي في المتن بأنه امتلأ بفيوض دلالية سعى بلدوين إلى تقديمها بهدوء، أو بعيداً عن الصخب السردي.
الرواية تنهض على قصة حب بين شابين افريقيين يسكنان مدينة نيويورك. الشاب «فوني»، وفتاته «يتش»، وكلاهما إحالة إلى منطوق دلالي يتصل بالتراتبية العرقية والطبقية، التي تسكن قيم هذه المدينة، إذ تنشأ علاقة حب بين هذين الشابين اللذين يتشاركان المكان عينه، والأهم ذلك المعاناة التي تنشأ من مرجعيتهما الفقيرة في مجتمع ينضح بالكراهية تجاه الآخر المختلف، وإن كان الحضور للتكوين الأبيض لا يتصل بشخصيات متعددة، ما يعني أن بلدوين لا يقيم تموضعه الأيديولوجي من الذات البيضاء بوصفها فرداً، بمقدار ما ينتقد المؤسسة البيضاء؛ ولهذا نجد أنه يسعى إلى تمكين كنائي، حيث يجعل من الشرطي الأبيض «بيل» تمثيلاً لهذه النظرة العرقية تجاه المجتمع الافريقي، أو كل ما يخالف موروث الرجل الأبيض، فالذوات الملونة غير قادرة على تقدير وجودها، أو استنهاض عالمها، فأمريكا ليست أعطية كما جاء في الرواية «عليّ أن أقول بالطبع بأنني لا أظن أن أمريكا أعطية من الرب لأحد، كائناً من كان». هذا التصور لا ريب ينحو منحى هجائيا للمكون الأبيض، وكأن بلدوين يكتب من موقع شخص غير منتمٍ كونه منبوذا.
المطلع على أعمال بلدوين سيجد أنه يتكئ على منظور، أو رؤى واضحة، في ما يتعلق بنقده للمجتمع الأمريكي ضمن ما يُعرف بالطبقات العميقة للعنصرية المتجذرة، ولكن الأهم من ذلك الوقوع على حدود فلسفته التي تتعلق بالحياة، والقيم التي يؤمن بها.
قيمة الحبكة السردية تتمحور حول اتهام «فوني» صديق الفتاة «يتش» باغتصاب امرأة مارتينيكية، ولكن لا يوجد ما يدعم هذه الادعاء سوى المرأة التي تتقدم بشهادتها، على الرغم من أن الحادثة وقعت في الليل، ولم تتمكن من التحقق من الرجل الذي قام باغتصابها، وهنا نستعيد رغبة الشرطي بيل بالانتقام من «فوني» لمواجهته إياها عند محاولة الأول الدفاع عن حبيبته «يتش» في مواجهة متحرش إيطالي. لا يمكن أن نقرأ هذا الفعل في إطار فردي، فالمؤسسة البيضاء هي التي اتهمت فوني فقط لكونه رجلاً أسود بين مجموعة من المتهمين البيض، ما يعني الانطلاق من أحكام مسبقة في إحالة كل فعل غير قانوني لقطاعات عرقية معينة تمكث في الضواحي. إننا هنا نقترب من التوصيف عينه الذي يمكن أن نقرأه في رواية الروائي البريطاني «أي إم فورستر» بعنوان «الطريق إلى الهند» ، فثمة ما هو مشترك من حيث العوامل الضاغطة لتكوين تصورات تجاه الآخر، بل إن الطبيعة ربما تتواطأ مع الحضور للأقوى في مواجهة المهمشين، ففورستر – في روايته- يعكس هذا الانطلاق المبهم لمشاعر الاتهام للآخر الملون، حيث تتهم السيدة البريطانية الدكتور الهندي «عزيز» بمحاولة اغتصابها، وذلك عند دخولها إحدى المغارات التي يصحبها إليها، وهنا يعمل المكان بوصفه فاعلاً في تعميق استيهامات المرأة، كما يوضح الفيلم المقتبس عن الرواية، وهكذا نرى أن «بلدوين» و«فورستر» ينطلقان من تلك الحدود التي تسكن العقلية العنصرية، لا على مستوى المكان وحسب، إنما تطال التكوين الشعوري العميق.
يبرز المكان عنصراً سردياً دلالياً، حيث يسعى بلدوين لتصوير المكان الذي يسكنه الملونون، وتحديداً الحدود التي تنشأ بين العالمين (الأبيض والأسود) في مجال الجغرافيا، حيث التّمركز الأوروبي في الوسط المتمدن والحضاري، مقابل كمون الآخر في الضواحي المهملة، وهذه ثيمة ناقشها فرانز فانون في العديد من كتاباته. هذا يحتم علينا أن نصف ذلك بأنه علمية ابتناء ثقافي تراكمي متجذر في العقلية العنصرية، التي تتسم بحمل تشوهات التمثيل عن كل ما يخالف النموذج المتفوق، بما في ذلك لون البشرة، أو الطبقة، أو القبيلة، وغير ذلك، فالآلية التي يعمل بها العقل البشري تقوم على المُسارعة إلى اتهام النموذج الأضعف في سلسلة الوجود، وهذا ما يمكن أنّ نلمحه في سردية بلدوين، حين يصف لنا مشاعر العداء الأبيض للمكون المختلف، وهنا أضطرُ لتوصيف لقاء الفتاة «يتش» بالشرطي الأبيض «بيل» حيث تتعالى استيهامات الثاني الجنسية إلى درجة أن «يتش» تستشعر امتعاظه عند لقائها.
إن هذا التمثيل المغرق في التجسيد لعنصرية الأبيض ورغبته في الاستحواذ، يعدّ صيغة ما فتئت تشكل حضوراً في الأدبيات ما بعد الكولونيالية، وهنا نقرأ ظلال الجغرافية حين ندرك أن المكان ينتج من قبل ذوات بالتآزر مع التمثيل الكلي للتاريخ، الذي يبدو ضاغطاً إلى حد كبيرة بحيث لا يمكن الانفكاك عنه، وهنا لا بد أن يضطر كتاب «دراسات ما بعد الاستعمار» إلى الاستعانة بمقولات هيغل في كتابه عن فلسفة التاريخ، خاصة في ما يتعلق بافريقيا – في حين يمكن أن نضيف الكيانات المستعمرة في آسيا وأمريكا اللاتينية – يرى هيغل أن افريقيا كانت دوماً في مجال مغلق، أو غير قادرة على التّعبير عن ذاتها، إنها صامتة في التاريخ، على الرغم من أنها أرض غنية غير أنها مضغوطة داخل ذاتها، فهي لا شك أرض الطفولة واللاوعي، والمنفلتة من الإدراك، إنها مازالت محاطة بغطاء مظلم.. وهذا ينزع عن الآخر كل ما يمكن أن يتصل بالرشد العقلاني، ذلك الكائن الجامح المنفلت من عقال العقل الذي يتميز به الأبيض المكتمل في ذاته ووعيه، أو المتعالي عن أي نزعة جامحة أو بدائية.
إن أي تصورات في ما يتعلق بالتطور للمكون الحضاري، لن يُلتفت إليه كونه محصوراً في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية.
إن أي تصورات في ما يتعلق بالتطور للمكون الحضاري، لن يُلتفت إليه كونه محصوراً في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، وهنا نرى أن هذا التوصيف الشديد الاختزال في عمل سردي بسيط، هو شكل من أشكال القدرة على استنفاد كافة القدرات السردية في حدود الكتابة المدركة لمعنى الإشارة الدلالية، عبر الاستناد إلى مكون فلسفي عميق، إنها الأيديولوجيا التي تمكث بين ثنايا النص، ولا يمكن أن تُكتشف لقارئ عادي، وهنا تكمن قدرة الكاتب على أن يحكم نصه في حدود الموجهات السردية، بحيث لا يمارس كتابة عبثية تغرق في الثرثرة.
رواية «بلدوين» لا تمتلك نبرات الغضب التنظيري، ولكنها تعتمد الدمج بين العالم والرؤية العميقة له، وهذا ما يجعل من بلدوين كاتباً عظيماً، لا لكونه قد أدرك معضلته الوجودية والإنسانية وحسب، بل لكونه استطاع أن يمارس دوره في المجال الخطابي السردي، وهو يمتلك أدواته، ويوظفها في وعي فني ناضج. إن النكوص نحو الذات الحرة كان خلاص بلدوين السردي بمن فيهم شخصيته «فوني»، فالحرية تعني ألا تكون تابعاً، وهنا يلّخص بلدوين هذا الإحساس على لسان الراوي: «إن الشعور الذي أنقذ فوني، كان هو نفسه الذي سبب له المشاكل وأودى به إلى السجن، فقد وجد محور اهتمامه الخاص في داخله، وكان ذلك بادياً عليه، لم يكن عبداً لأحد، الأمر الذي يعتبر بحد ذاته جريمة في هذا البلد الحر القميء».
الفعل الضاغط للنظام المؤسسي الأبيض يقود الآخر لمصائر غير سوية، فوالد «فوني» يموت في سيارته نتيجة عجزه عن مساعدة ابنه، والفتاة «يتش» تفكر بالعمل في الدعارة لتوفير المال، بينما النظام القضائي يبدو منغمساً في تمكين هذا النهج العنصري، حيث يمارس الكذب. ولعل تتبع مواقع الصيغ الخطابية سيكشف بأن بلدوين ينطلق من فكرة قوامها أن أمريكا متشظيّة من الداخل، حيث نقرأ الإشارة إلى المجتمع الأبيض ومؤسسته عبر ضمير الغائب، ولاسيما (هم) وهو ما يحيل إلى الانقسام. يرغب بلدوين في أن يتمثل المجتمع الافريقي عبر قيمه القائمة على الحب والتكاثف وتقدير العائلة وواجبها بالدفاع عن أفرداها، حتى لو اضطرت للسرقة، وكأنه يقيم جسماً مضاداً للمؤسسة، وهذا ما يجعلنا نؤمن بأن بلدوين كان يرى أن حل قضيته ينهض على عناصر ذات طابع مجتمعي، يتصل بالذوات الافريقية بوصفها أمة، لها قيمها الخاصة، وهكذا ينقل الإشكالية إلى القيمة الموجبة للأجيال القادمة، فإصرار «يتش» على إنجاب طفل «فوني»، يحيل إلى التّشبث بالوجود، والمقاومة، فلا جرم أن نسمع في ختام الرواية صرخات الطفل عند اقتراب موعد الولادة… هي صرخات احتجاجية في وجه المنظومة العنصرية: «فوني يعمل بالخشب، بالحجر، يصفر مبتسماً و… من البعيد مقترباً شيئا فشيئا، كان الطفل يصرخ ويصرخ ويصرخ ويصرخ ويصرخ ويصرخ كأنه يتعمد إيقاظ الميت.
٭ كاتب فلسطيني أردني