في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، كتب الكاتب البريطاني إريك بلير (1903 ـ 1950) المعروف بجورج أورويل روايته السادسة «1984» التي صدرت بعد وفاته بوقت قصير، وأدخلته إلى الرواية الإنكليزية من بابها الواسع. ولعل عنونتها بسنة ميلادية تشكل إشارة واضحة إلى زمن الأحداث المتخيلة فيها، المنتمية إلى المستقبل. واليوم، يصدر الكاتب السوري عبدالله مكسور روايته السابعة، ويعنونها بسنة ميلادية أخرى «2003» (نوفل /هاشيت أنطوان)، فيشكل العنوان إشارة إلى زمن آخر، ينتمي إلى الماضي، هذه المرة، ما يجعل العملية الروائية مزيجاً من الوقائع التاريخية والتصورات المتخيلة. على أن إطلاق مصطلح زماني على عمل روائي ليس حكراً على الكاتبين المذكورين، على ما بينهما من فوارق، في الدرجة والنوع، بل هي تسمية لجأ إليها آخرون غيرهما، سواء أكان المصطلح ينتمي إلى الماضي، أم إلى المستقبل.
الاحتلال الأجنبي
بمعزل عن العنوان، إذا كان أورويل يتناول في روايته الحياة في ظل الأنظمة الشمولية، متخذاً من النظام الشيوعي نموذجاً لها، فإن مكسور يتناول الحياة في ظل الاحتلال الأجنبي، متخذاً من الاحتلال الأمريكي للعراق، خلال عام 2003، نموذجاً له. وفيها يرصد القبضة الحديدية للاحتلال على البلد المحتل، ووطأته الثقيلة على المكان والزمان والإنسان، من خلال انعكاسها على المسارات العاثرة لبطل الرواية والشخوص الأخرى المتعالقة معه، والمصائر الفاجعة التي تؤول إليها تلك المسارات. وإذا كانت الوقائع الروائية تدور في بغداد في عام 2003، فإن الوقائع التاريخية تتراوح بين مصر وفلسطين وسوريا وألمانيا، وتعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى، ما يفتح الفضاءات المكانية بعضها على بعض، ويجعل اللحظة الروائية غير منقطعة عما قبلها، أو عما بعدها في سياق صيرورة تاريخية لا تزال مستمرة.
الرواية والتاريخ
في «2003»، يمهد التاريخ للرواية ويتقاطع معها ويفترق عنها. وهذه العلاقات تتمظهر من خلال علاقة الراوي/ البطل بالشخوص الأخرى؛ فطبيب الأسنان الدكتور علي الذي يملك عيادة في شارع السعدون في بغداد، يتحدر من جد لأم، كان ضابطاً في الجيش العثماني، شارك في حروب السلطنة، أُصيب في مواجهة مع البريطانيين في عكا، وسافرإلى ألمانيا للعلاج، ما أدى إلى بتر ذراعه اليسرى. وأبوه سوري من حماه ذهب ضحية علاقته بالشيخ طاهر، القيادي في تنظيم الإخوان المسلمين، خلال المجازر التي ارتكبها النظام بحقهم، مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. لذلك، يوعز إلى ابنه الشاب بمغادرة البلاد، فيغادر إلى العراق حاملاً على كاهله ثأر جده الأول وأبيه، متلمساً طريقه في الحياة، بدون أن يعرف أي حربٍ مقدسة بانتظاره. يدرس طب الأسنان في جامعة بغداد، ويفتتح عيادة له في شارع السعدون. وهكذا، يمهد التاريخي للروائي، ويكون على علي أن يشهد على أحداث تاريخية كبرى، وأن ينخرط فيها من حيث لا يدري، وأن يدفع ثمن شهادته وانخراطه غاليا.
صدام حسين
في هذا السياق، تشكل واقعة اقتحام صدام حسين، الرئيس العراقي الأسبق العيادة، فجر التاسع من نيسان 2003 طلباً للعلاج من ألمٍ ألم بأسنانه، البداية الفعلية للرواية، ولا أقول النصية، التي ستترتب عليها نتائج وخيمة على الدكتور وآخرين. فصدام يرى من نافذة العيادة، بأم العين، سقوط تمثاله في ساحة الفردوس، ويبدي تجلداً يخفي خوفاً داخليا، ويحسن معاملة الطبيب، ويقرر منحه وسام الرافدين تقديراً لخدماته مدوناً قراره على قصاصة، ويغادر مع مرافقه تحت جنح الظلام. وإذا بهذه القصاصة التي كانت تعتبر نعمة في عهد صدام يتطلع إليها كثيرون، تتحول إلى نقمة بعد سقوطه تكلف حاملها أثماناً باهظة. ذلك أن الطبيب يغادر عيادته إلى السفارة الفلسطينية في بغداد، ملبيا دعوة صديقه أبي الكرم القائم بالأعمال، ظنا منه أن الحصانة الدبلوماسية تحمي من المحتلين. غير أن حساب الحقل لا يطابق حساب البيدر، فتقتحم القوات الأمريكية السفارة، وتعتقل جميع الموظفين فيها واللاجئين إليها، ضاربةً عرض الحائط بالأعراف الدبلوماسية، وتقوم بالتحقيق معهم والتنكيل بهم، حتى إذا ما عثرت على القصاصة المكتوبة بخط صدام بحوزة علي، تكون الواقعة بداية سلسلة من التحقيقات، تؤول إلى ما لا تحمد عقباه.
آليات التعنيف
تتمحور التحقيقات مع الموقوفين حول صدام حسين ومكان اختبائه، وتُستخدم فيها آليات التعنيف اللفظي والمعنوي والجسدي، وينال الراوي حصة الأسد منها؛ فيُغطى رأسه بالكيس، وتُكبل يداه بالأصفاد، ويُغتصب بقضيب حديد، ويُربط إلى عمود، ويُضرب، ويُبصق في طعامه، ويُمنع من التغوط والتبول والنوم، ويُسكب عليه الماء، إلى ما هنالك من آليات تتفتق عنها مخيلة السجان الأمريكي. وفي المقابل، يَصر علي على إفادته نافياً أي علاقة له بصدام، أو أي معرفة بمكانه، يلجأ إلى الذاكرة مستجيراً بها من قسوة الحاضر، وإلى المخيلة مستعيناً بها لبلوغ مستقبل أفضل، ما يشكل آليات دفاع يلجأ إليها الراوي وآخرون للبقاء على قيد الصمود.
على أن واقعتين اثنتين تسهمان في التخفيف من معاناة علي؛ الأولى تتمثل في إبلاغه أن حمضه النووي يتطابق مع حمض رجل آخر كان قد أسره الأمريكيون في ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى ما يثير فضوله ويشكل منطلقاً لصداقة بينه وبين السرجنت الأمريكي توماس، الذي يبحث في علاقة المنطقة بأوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، ويقوده البحث إلى أن الرجل هو حكمت علي محمد ناظم العمر، جده لأمه، الذي سافر إلى ألمانيا طلبا للعلاج. غير أن البحث يتكشف أيضاً عن علاقات خطيرة نسجها الجد، وأدوار مشبوهة قام بها. وهنا، يتقاطع التاريخ مع الرواية، بعد أن مهد لها في البداية. الواقعة الثانية تتمثل في لقاء علي بأحمد، ابن الشيخ طاهر، الذي كانت تربطه علاقة حب قوية بأخته حال هربه دون أن تؤتي ثمارها، ما أحيا فيه الحنين إليها، وجدد الحلم باللقاء بها. وهنا، يتقاطع الماضي والحاضر أيضاً. غير أن تعرف علي إلى الأسير إبراهيم من الجزيرة العربية الذي يتقرب من أحمد، ويبايعه على الإمارة، ستكون له تداعيات أخرى، تقرر مصير الآخرَيْن.
في الخطاب الروائي، تتخذ «2003» شكلاً دائريا، فتتشابه بداية الفصل الأول ونهاية الفصل الأخير. وبين البداية والنهاية تنخرط الفصول الأربعة عشرة في علاقة تسلسلية تراعي كرونولوجية الزمن.
ضربة القدر
حين يتم التأكد من صحة أقواله، يتم الإفراج عن البطل، ويحصل ذلك بالتزامن مع إلقاء القبض على الرئيس الأسبق، في إشارة واضحة إلى أن الحرية نتيجة طبيعية للتخلص من الاستبداد. وإذ تقوده الدروب إلى دبي، يتدبر أمر الاتصال بحبيبته السابقة في سوريا، ويتفقان على أن توافيه إلى دبي لوصل ما انقطع بينهما، قبل عشرين عاماً، بفعل الاستبداد. غير أن القدر كان لهما بالمرصاد، فحين يقوم علي بزيارة القاعدة الأمريكية في دبي، بصفته مندوب مبيعات في شركة طبية، يضرب القدر ضربته غير المتوقعة، فَيُفاجأ بأن مسؤول قسم المشتريات في القاعدة هو إبراهيم، الأسير السابق في معتقل كروبر في مطار بغداد. ويكتشف أنه مجرد عميل أمريكي مكلف بالتجسس على المعتقلين بصفة أسير. وإذ يعلم الأخير أن أمره افتُضح، يقوم باقتياد علي إلى مكان في الصحراء، يسومه صنوف العذاب، يعلمه أنه أرسل أحمد إلى سجن غوانتانامو، ويعمد إلى حقنه بإبرة قاتلة، غير أنه، قبل أن يُسلم الروح، يكتب بدمه على الحائط عبارة «أحبك» التي تنتهي بها الرواية. وهو ما فعله الجد الأكبر حكمت، في بداية الرواية، حين كتب بدمه: «لا شيء يدوم؛ ولا حتى أنا، صوتي الذي طالما تناغم مع صداه، سينقطع، وإلى الأبد». وبذلك، تتشابه واقعتا البداية والنهاية، رغم المسافة الزمنية الطويلة الفاصلة بينهما، ما يمنح الرواية شكلاً دائريا، ويشي بأن التاريخ يعيد نفسه ولو بطريقة مختلفة.
وعليه، فإن المسارات التي تقاطعت في الرواية، خلال أشهر الاعتقال الطويلة، آلت إلى مصائر مختلفة بين شخصية وأخرى، لكنها، على اختلافها، تتفق في الفجيعة؛ فعلي ينتهي محقوناً بإبرة قاتلة. وأبو الكرم يخرج من المعتقل، بعد سنتين من الاعتقال، مريضاً جسديا ونفسيا. وأحمد يُرحل إلى غوانتانامو. وإبراهيم العميل ينتهي به المطاف قاتلاً ، يغدر بأبناء قومه.
الخطاب الروائي
في الخطاب الروائي، تتخذ «2003» شكلاً دائريا، فتتشابه بداية الفصل الأول ونهاية الفصل الأخير. وبين البداية والنهاية تنخرط الفصول الأربعة عشرة في علاقة تسلسلية تراعي كرونولوجية الزمن. ينتظم سردها في لغة طلية، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة، ويتناغم مع حوارات رشيقة لصياغة المشاهد الروائية المتعاقبة. غير أن الكاتب يكسر هذا التناغم أحياناً بأنماط كلامية أخرى: كالوثيقة، والرسالة، ومحضر التحقيق، والقرار الرئاسي، وغيرها. وإذا كان النص مقنعاً في روائيته وإيهامه بالواقعية والصدق الفني في معظم الوقائع التي ساقها، فإن الإقناع لم يحالفه في تبرير إشارة صدام، في قرار الوسام، إلى الدور الذي لعبه جد علي الأول في خدمة ثورة الشعب العراقي. فكيف عرف أن الطبيب هو حفيد حكمت العمر؟ وأنى له، وهو المهزوم، المطارَد، الباحث عن مكانٍ يخفيه عن أعين الأعداء، أن تصدر عنه مثل تلك الإشارة؟ ولم يحالفه الإقناع في تبرير الحصول على الحمض النووي للجد قبل اكتشاف هذه التقنية الطبية. ورغم ذلك، استطاع عبدالله مكسور أن يقدم رواية جميلة، تنطلق من التاريخ، وتتقاطع معه وتفارقه. تزاوج بين الاستبداد الداخلي والغزو الخارجي وآثارهما المدمرة على البلاد والعباد، وتبشر بالحب ولو على شفير الموت، ما يجعلها جديرة بالقراءة.
كاتب لبناني