الغاز الروسي والقطري من أرخص إمدادات الغاز في العالم وأقواها تنافسية. ومع أن الولايات المتحدة تعمل بكل جهدها لمحاصرة فرص روسيا في تصدير الغاز إلى أوروبا، إلا أن قدرتها على المنافسة محدودة جدا، نظرا لأنها تحتاج إلى تحويل الغاز الطبيعي إلى غاز مسال، ثم نقله داخل صهاريج شديدة التبريد حتى يصل إلى موانئ التصدير ليتم استقباله، ثم إجراء عملية عكسية عليه، لتحويله إلى غاز مرة أخرى، وضخه في شبكة الأنابيب الأوروبية لتغذية احتياجات الاستهلاك المنزلي، ولتشغيل محطات إنتاج الكهرباء.
وقد تحولت صادرات الغاز الروسي لأوروبا إلى قضية سياسية ساخنة، منذ اتفقت شركة غاز بروم الروسية مع تحالف من شركات أوروبية، من بينها شل الهولندية – البريطانية وإنيجي الفرنسية و(أو إم في) النمساوية، إضافة إلى اثنتين من كبريات شركات المرافق العامة الألمانية، لمد خط أنابيب مزدوج من شمال غرب روسيا عبر بحر البلطيق، هو خط نورد ستريم – 2، لنقل ما يقرب من تريليوني قدم مكعب من الغاز سنويا من روسيا إلى أوروبا الغربية. الاتفاق أثار حفيظة الولايات المتحدة من ناحيتين، تجارية وسياسة. على الصعيد التجاري، فإن وصول الغاز الروسي الرخيص إلى أوروبا بكميات إضافية كبيرة يقلل فرص تصدير الغاز الأمريكي المسال إلى أوروبا. وعلى الرغم من تراجع الأسعار عالميا خلال العام الحالي، فإن سعر تصدير الغاز المسال الأمريكي إلى أوروبا الغربية ما يزال عاليا جدا، مقارنة بسعر الغاز الطبيعي الروسي، الذي يتم تصديره مباشرة من حقول سيبيريا إلى أوروبا بسعر يبلغ في المتوسط 2.5 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية، في حين ان سعر الغاز الأمريكي المسال في أوروبا على ظهر سفن صهاريج الغاز المبردة يدور حول 5.5 دولار للمليون وحدة حرارية.
أما على الصعيد السياسي، فإن الولايات المتحدة تعلن بصراحة أن خط نورد ستريم – 2، سيجعل أوروبا أكثر اعتمادا على الغاز الروسي. ولا ترغب الولايات المتحدة في أن يكون أمن الطاقة في أوروبا معتمدا على الإمدادات الروسية، ولذلك فقد أعلنت مجموعة من العقوبات القاسية، ضد الشركات والبنوك العاملة في إنشاء الخط. وجاءت أحدث حلقات العقوبات ضد هذه الشركات، في قانون ميزانية الدفاع للولايات المتحدة في عام 2020 شملت الشركات الألمانية والفرنسية والهولندية والبريطانية والنمساوية الشريكة في الخط، إضافة إلى الشركة السويسرية – الهولندية العاملة في التنفيذ. لكن التهديدات الأمريكية لم تترك أثرا كبيرا على أعمال إنشاء الخط حتى الآن. ويقدر الخبراء الهندسيون أنه تم بالفعل تنفيذ النسبة الأعظم من أعمال تشييد الخط البحري العابر لبحر البلطيق بطول 1150 كيلومترا تقريبا، وما يزال على الشركات العاملة أن تحاول استكمال تنفيذ الأعمال المطلوبة، وقد يستغرق ذلك عدة أشهر حتى منتصف عام 2020 تقريبا. هذا بافتراض ان تشديد العقوبات الأمريكية لن يؤدي إلى تعطيل، أو وقف أعمال إنشاء الخط. وقد تعرضت أعمال الإنشاءات لبعض الصعوبات، لكن ليس بسبب الضغوط الأمريكية، وإنما بسبب طول مدة إنهاء الإجراءات التشريعية والإدارية المتعلقة بمد الخط داخل المياه الإقليمية للدول المطلة على بحر البلطيق. وتسعى المستشارة الألمانية انغيلا ميركل للانتهاء من إنشاء نورد ستريم – 2 في أسرع وقت ممكن، وتذليل اي عقبات يمكن أن تعترض عملية التنفيذ.
التنقيب عن الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط يتوقف على وجود تعاقدات تجارية طويلة الأمد لشراء الغاز من الشركات المنتجة
كذلك فإن روسيا على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف أعلنت موقفا قويا ضد العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا، وأكد لافروف أن روسيا وأوروبا ماضيتان معا في إنشاء خط الأنابيب الجديد، على التوازي مع خط أنابيب جديد أيضا عبر تركيا، ما سيزيد طاقة تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، ويساعد كلا من روسيا والدول المستهلكة على تجنب اي احتمال لتهديد طرق الإمدادات. وأكد لافروف على أن خط أنابيب تركيا (تورك ستريم) سيتم افتتاحه قريبا جدا في الأسابيع القليلة المقبلة.
ومع اكتمال منظومة تصدير الغاز الطبيعي من روسيا عبر خطوط أنابيب ممتدة من خلال بحر البلطيق وأوكرانيا وتركيا، فإن روسيا ستصبح فعلا في مكانة مسيطرة في سوق الغاز الأوروبي. ولا ترى اوروبا في ذلك أي تهديد لها، بل إنها تحقق فوائد تجارية واستراتيجية متنوعة، أهمها ضمان الإمدادات على المدى الطويل، وانخفاض أسعار الغاز، ومساعدة أوروبا للضغط على الموردين الآخرين للغاز الطبيعي مثل، الجزائر لتخفيض الأسعار بما يتماشى مع مستويات الأسعار الروسية. وقد وقعت الجزائر فعلا ضحية للمنافسة الشرسة التي يفرضها الغاز الروسي في أوروبا، فتراجعت كميات الصادرات إلى أسواق أوروبا التي تستورد الغاز الجزائري عبر خط الأنابيب الذي يربط بين الجزائر وهذه الأسواق، خصوصا هولندا وإيطاليا، كما انخفضت أسعار تسليم الغاز إلى حوالي 2.5 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية (بي تي يو). كذلك فإن وفرة الغاز الروسي، خصوصا في صورته الطبيعية، تركت أثرا سلبيا قويا على أسعار الغاز في الأسواق الآسيوية، حيث تعتبر الصين هي المحرك الرئيسي لاتجاه الأسعار. وقد ساعد الاتفاق بين الصين وروسيا على مد خط أنابيب للغاز الطبيعي من شرق سيبيريا إلى الصين، على تغيير معادلات الأسعار في شرق آسيا، وتسبب في هبوط الأسعار بنسبة كبيرة وصلت إلى 25% خلال العام 2019. ولا يتوقع خبراء الغاز في العالم أن تتماسك الأسعار خلال الأشهر القليلة المقبلة، نظرا لضعف نمو الطلب في الصين. وقد يساعد النمو في الهند على تعويض النقص في الطلب من جانب الصين. إذ ينمو الطلب على النفط والغاز في الهند حاليا بمعدلات سريعة. وسوف تترك إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا تأثيرا كبيرا على عمليات التنقيب عن الغاز، وتطوير الحقول القائمة في منطقة شرق البحر المتوسط. ونظرا لأن مكامن الغاز في حوض شرق البحر المتوسط توجد على أعماق بعيدة تحت سطح البحر، تصل إلى ما يتراوح بين 3000 ألى 5000 متر في بعض الحالات، ولذلك فإن تكلفة استخراج الغاز في هذه المنطقة مرتفعة جدا، ولا تبرر استخراجه إلا في حال توفر عقود مضمونة طويلة الأجل، لفترات تتراوح بين 10 أعوام إلى 30 عاما.
وعلى ذلك فإن قيام الشركات العاملة في شرق المتوسط حاليا باتخاذ إجراءات جادة للكشف عن حقول جديدة، هو أمر مشكوك فيه بقوة، نظرا لوفرة إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، عبر مسارات جغرافية مختلفة. وعلى الرغم من أن أوروبا تسعى لتنويع مصادر إمداداتها من الغاز، إلا أنها لا يمكن أن تتجاهل الاعتبارات التجارية المرتبطة بذلك، حيث أن الشركات المستهلكة، سواء كانت خاصة او مملوكة للدولة، لن تستطيع تحمل الخسائر الناجمة عن الالتزام باستيراد غاز مرتفع التكلفة، إلا إذا حصلت على دعم وتعويضات حكومية، لذلك فإن الصراعات الدائرة حاليا في شرق البحر المتوسط بشأن مناطق التنقيب عن الغاز، ليست في حقيقة الأمر إلا صورة تتجلى من خلالها صراعات سياسية بين حكومات، تسعى كل منها لتحسين صورتها في أعين مواطنيها، ومع أن تصعيد التوتر إلى درجة التهديد بالحرب، بدعوى الدفاع عن المحافظة على نصيب كل دولة أو حصتها من الغاز، ما هو إلا خطاب للاستهلاك المحلي. وليس من المتوقع، في ظل الظروف الراهنة ان تتوسع عمليات التنقيب عن النفط والغاز خارج حدود الحقول الموجودة حاليا. خير دليل على ذلك هو موقف شركة إيني الإيطالية من تطوير حقل ( نور) الذي يقع داخل المنطقة الاقتصادية لمصر في شرق البحر المتوسط، بالقرب من حقل ظهر. وكان من المفترض أن تعلن إيني في الربع الأول من العام الحالي البدء في إجراءات استثمار الحقل، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، ولن يحدث إلا إذا تعاقدت الحكومة المصرية مع إيني على شراء غاز حقل نور أو اتفق مع إيني مستورد اوروبي.
الخلاصة التي ننتهي إليها هي أن روسيا هي اللاعب الرئيسي في سوق الغاز الطبيعي في العالم، وهي بذلك تلعب دورا مسيطرا على سوق الغاز في أوروبا، وأن العقوبات الأمريكية فشلت في كبح هذا الدور، وأن التنقيب عن الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط يتوقف على وجود تعاقدات تجارية طويلة الأمد لشراء الغاز من الشركات المنتجة. وليس من المتوقع أن تتحسن سوق الغاز كثيرا في العام المقبل، بعد أن خسرت الأسعار حوالي 25% خلال العام الحالي. ومن ثم فإن هناك شكوكا كبيرة في أن يتم التوسع في استغلال ثروات الغاز في شرق المتوسط، ما لم تحصل الشركات المنتجة مسبقا على عقود مؤكدة طويلة المدى لبيع الغاز المستخرج.
كاتب مصري
مصر اكبر مستفيد من اى مشكلة لتصريف غاز كل دول
شرق المتوسط سواء قبرص او اسرائيل
والسبب مصر يوجد بها ثلاث محطات تسيل الغاز
وبذالك مصر هى المتحكمة فى معظم الإنتاج
فى المنطقة وكل الدول المستوردة للغار فى البحر المتوسط
سوف تجد الغاز القادم من محطات الغاز المسال المصرية متوفر وجاهز وباسعار معقوله
لكن المفتاح مع عبدالفتاح.
شكرا استاذنا المبجل على هذا المقال الحصيف لعل الحقيقة المؤلمة هي من ينظر الى الروس كأصدقاء الدب الروسي لا ينظر الا الى مصالحه فرغم العلاقات الاقتصادية القوية بين الجزائر وروسيا جعلت الجزائر اول مشتري للسلاح الروسي فهذا لم يشفع لها امام الدب الروسي حيث تعرضت الجزائر الى منافسة غير شريفة من الروس عبر مد الاوربيين بالغاز بأقل من السعر الجزائري. ورغم هذا سنجد بعض يسارع الى مدح الدب الروسي ووصفه بالحليف الاستراتيجي
أمريكا هي السرطان خبيث للعلاقة بين روسيا وأوروبا وهي الدمار والخراب لهذا الكوكب