تشهد منطقة أمريكا اللاتينية تغييرات سياسية كبرى بعودة اليمين المحافظ إلى السلطة في عدد من دول المنطقة، وعلى رأسها البرازيل، وتراجع اليسار رغم المفاجأة الكبرى في المكسيك بوصول رئيس يساري وهو لوبيث أوبرادور. وبعد فوز اليمين، هل استعادت واشنطن أمريكا اللاتينية؟ أم بدأت المنطقة تسير بصمت في سيناريو شبيه بالشرق الأوسط تستغله روسيا لتعزيز نفوذها؟
منذ نهاية عقد التسعينيات وحتى 2017، هيمن اليسار الجديد على السلطة في مختلف دول أمريكا اللاتينية، بفضل برامجه الاجتماعية وبراغماتيته. وبرزت أسماء بصمت تاريخ المنطقة ومنها هوغو تشافيز في فنزويلا، ولولا دا سيلفا في البرازيل، وخوسي موخيكا في الأوروغواي، لكن إغراءات السلطة والمال جعلت عددا من أعضاء الحكومات يسقطون في الفساد، ما جرّ عليهم غضب الشعوب، وكان التغيير بالتصويت على اليمين المحافظ.
ومن ضمن التعابير السياسية الأكثر استعمالا ورواجا في النقاشات والتحاليل حول المنطقة هي «فقدان واشنطن لحديقتها الخلفية»، إذ اعتبرت الولايات المتحدة ومنذ تبني الأطروحة المعروفة بـ»عقيدة مونرو» في العشرينيات من القرن التاسع عشر «أمريكا للأمريكيين» كل القارة حديقتها الخاصة، ومنعت الأوروبيين من استعمار أي منطقة، خاصة بعد استقلال أمريكا اللاتينية عن إسبانيا والبرتغال. وحفاظا على مصالحها، خاضت حروبا ضد دول في المنطقة خلال القرن التاسع عشر وحتى بداية العشرين، خاصة المكسيك، ثم مشاركتها في الكثير من الانقلابات العسكرية وأشهرها ضد رئيس تشيلي سلفادور ألليندي سنة 1973.
ويهيمن رؤساء يمينيون بعضهم متطرف مثل رئيس البرازيل الجديد بولسونارو على السلطة في أمريكا اللاتينية، ويدعون إلى توثيق العلاقات مع البيت الأبيض، لاسيما في السياسة الخارجية. ولهذا لا يمكن اعتبار قرار البرازيل نقل سفارتها إلى القدس مفاجأة في ظل رئيس من طينة هذا المتطرف اليميني، كما لا يمكن فهم مقترح هذا الرئيس بمنح الولايات المتحدة قاعدة عسكرية في البرازيل بالشيء المفاجئ، لولا معارضة الجيش البرازيلي للمقترح واستبعاده، لأنه سيقلل من قيمة هذا البلد كدولة إقليمية ومركزية في المنطقة. ومنذ وصول اليسار إلى الحكم في المنطقة، بذلت واشنطن مجهودا جبارا للمساهمة في التغيير السياسي في أمريكا اللاتينية بشكل علني أو سري، وهو الغالب، ونجحت نسبيا. لكن عودة اليمين إلى السلطة لا يعني استعادة حديقتها الخلفية على شاكلة الماضي، بل فقط بعض النفوذ، فقد تغيرت الأوضاع مقارنة مع العقود السابقة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تسير نحو ما قد يمس مصالح الأمن القومي الأمريكي بشكل لم يتم تسجيله في الماضي، إبان الحرب الباردة، وأصبحت «عقيدة مونرو» جزءا من الفكر السياسي الذي يصلح للحديث عن الماضي أكثر من الحاضر، وبانعدام مستقبلا خاصة في ظل الرغبة الجامحة لروسيا لتوسيع نفوذها.
لقد كانت روسيا من الدول الرابحة بوصول اليسار إلى السلطة في أمريكا اللاتينية، فقد رفعت علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع دول المنطقة. وقد يؤدي أي انزلاق من طرف اليمين أو الولايات المتحدة إلى مستجدات غير محسوبة. وخوفا من الهيمنة البرازيلية والتدخل في شؤونها بعد وصول الرئيس الجديد، بدأت فنزويلا بتطوير العلاقات العسكرية مع روسيا. وتفيد مؤشرات برغبة موسكو تكرار سيناريو دعمها لسوريا، وهو الدعم الذي شكل منعطفا في العلاقات الدولية نحو عالم لا تنفرد فيه واشنطن والغرب عموما، وذلك بتقديم دعم حقيقي لفنزويلا. فقد قررت موسكو إرسال خبراء عسكريين إلى هذا البلد، وفي الوقت ذاته، أصبحت فنزويلا تستقبل الطائرات العسكرية الروسية، ولعل المنعطف هو وصول طائرات قاذفات استراتيجية قادرة على حمل رؤوس نووية «تو 160» إلى فنزويلا الشهر الماضي، وللمرة الثانية. وتحولت موانئ ومطارات فنزويلا إلى محطة دائمة للسفن الحربية الروسية، حيث ستستقبل الطائرات والسفن باستمرار، بل ويرتقب استقبالها لسفينة حربية إيرانية خلال مارس/آذار المقبل.
بدأت روسيا تغير من الشرق الأوسط بتحالفاتها العسكرية أكثر من الاقتصادية
وبمزيد من الدعم، قررت موسكو إعادة جدولة الديون الفنزويلية لمواجهة العقوبات الأمريكية وباقي دول المنطقة، وهذا يعني رهانها على نظام الرئيس مادورو للبقاء في السلطة. وكل هذا يجعل فنزويلا تحظى باهتمام شبيه ولو في الحد الأدنى للاهتمام الذي توليه روسيا لسوريا. وفي حالة مزيد من الضغط على فنزويلا في ظل صعوبة إسقاط نظام مادورو، قد يلجأ هذا الأخير إلى منح الروس امتيازات عسكرية غير مسبوقة.
ويتكرر السيناريو نفسه في حالة بوليفيا، فقد ندد رئيس هذا البلد إيفو موراليس بتحركات أمريكية لتعزيز حضورها العسكري في دول تجمعها حدود مع بوليفيا وهي، الأرجنتين والبرازيل والباراغواي. علما أن العلاقات الروسية -البوليفية في مرحلة متقدمة من التنسيق الاقتصادي، خاصة في قطاع الغاز الذي تحول إلى مصدر مهم للطاقة في العالم، ويتسارع التنسيق العسكري بعدما باعت موسكو لهذا البلد صواريخ مضادة للطيران متطورة تقلل من تخوفها من جيرانها، بل نقلت لها صناعة الصواريخ الحربية. وكل ضغط من واشنطن وحلفائها على بوليفيا سيدفعها إلى مزيد من الارتماء في أحضان الدب الروسي وقد يصل إلى قاعدة عسكرية روسية. لقد بدأت روسيا تغير من الشرق الأوسط بتحالفاتها العسكرية أكثر من الاقتصادية، وقد بدأت تنقل السيناريو نفسه إلى دول في المنطقة لتؤكد لها مصداقية أي حلف مستقبلا، ومنها تزويد هذه الدول بما يصطلح عليه «سياسة الصواريخ» للتقليل من خطر الجيران الأقوياء الذين انضموا إلى مخططات البيت الأبيض. ولهذا، رغم التغيير السياسي بوصول اليمين إلى السلطة، لن تستعيد واشنطن حديقتها الخلفية، فقد استغل الدب الروسي التطورات ليقتسم المنطقة مع الأمريكيين للاقتراب من حدودهم كما اقتربوا هم من أوروبا الشرقية.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»
لا يمكن الوثوق بروسيا! لا فرق بينها وبين أمريكا!! ولا حول ولا قوة الا بالله
وسع الحلف الأطلسي نحو حدود روسيا، ستتوسع موسكو الى أمريكا اللاتينية، الصراع حول المواقع الاستراتيجية للإقتراب من حدود العدو. أعجبتني أطروحة تحويل فنزويلا الى سوريا الجديد لروسيا، يعني حدوث قلاقل في أمريكا اللاتينية.
ولو انتقل سيناريو الشرق الأوسط الى أمريكا الجنوبية لن نشهد الخراب والدمار الذي يوجد في الشرق الأوسط. مشاكل القارة الأمريكية غير عويصة، لا توجد لديهم مواجهات دينية وأحقاد التاريخ.