في الوقت الذي نعيش فيه مآسي الأشقاء في المغرب وليبيا، ويتساقط ضحايانا بالآلاف مع إعصار «دانيال» والزلزال، كانت زلازل السياسة الدولية تتوالى، وكان زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي لا يخرج من بلاده إلا في القليل النادر، يستقل قطاره المدرع العجيب، ويمضي في رحلة العشرين ساعة إلى روسيا، ويلتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قاعدة «فوستوتشنى» الفضائية، وبينما كان كيم بوجهه الطفولي المنتفخ، يبدو في غاية السعادة بلقاء «الرفيق» بوتين، الذي التقاه لمرة سابقة وحيدة عام 2019، كان الكبار في الإدارة الأمريكية يواصلون الصراخ وتوجيه التحذيرات، ويتوعدون كيم بدفع الثمن غاليا، وكأن لدى واشنطن شيئا آخر تفعله، بعد عشرات ومئات العقوبات التي فرضت على بيونغ يانغ، وجعلتها ـ مع كوبا ـ أكثر بلدان الدنيا عزلة عن العالم الخارجي، اللهم إلا من علاقات وثقى متكتم عليها مع الصين وروسيا.
ولا تخفى دلالة خطوة كيم الجديدة، ولا تعمد روسيا الاحتفاء بزيارته، فقد زالت موانع الحرج، ولم يكن بوسع كيم الذهاب لروسيا، من دون التشاور مع جارته الكبرى وراعيته الأهم، الصين، وقد تراكمت ملامح شراكة استراتيجية متطورة، تدمج كوريا الشمالية في تحالف وثيق نامٍ بين الصين وروسيا، تدافعت أماراته الكبرى منذ لقاء الرئيس الصيني شي مع بوتين، على هامش دورة الألعاب الشتوية الأوليمبية في بكين، التي جرى افتتاحها في 4 فبراير 2022، قبل عشرين يوما من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وصدر عن القمة الشهيرة بيان تاريخي، كان بمثابة اللحن الافتتاحى لإعلان التحول إلى عالم متعدد الأقطاب، وبعدها بأكثر قليلا من عام، التقى الرئيس الصيني مع حليفه بوتين في موسكو أواخر مارس 2023، وقال «إن العالم يتغير كما لم يحدث من مئة سنة»، ولم يكن المعنى مقصورا على قفزات العلاقات بين بكين وموسكو، بل بإسهام العاصمتين الكبيرتين في دفع التغيرات الدولية، وهو ما قاد بعد شهور، إلى توسع جماعة «بريكس» وضمها لست دول جديدة في قمة جنوب افريقيا، ثم كانت المقاطعة الضاغطة من الرئيسين الصيني والروسي لقمة «العشرين» المنعقدة مؤخرا في الهند، بما أدى إلى إخفاق واشنطن وأوروبا في وضع عبارة «إدانة روسيا» في البيان الختامي، فقد أصبح عدد دول «بريكس» ـ القديمة والمضافة ـ مساويا لعدد الدول «السبع» ذات الميل الغربي في مجموعة العشرين، ولم تعلق بكين ولا موسكو كثيرا على ما جرى، وإن واصلتا العزم على فعل المزيد، الذي ربما نراه في زيارة قريبة للرئيس الروسي إلى بكين.
واجب الوقت هو التضامن الأخوي الصادق، وبذل أقصى الجهد في مد يد العون للمنكوبين، وجبر الضرر المريع، الذي لحق بالإخوة المغاربة والليبيين فالضحايا من شعوب الأمة لا من حكوماتها وحكامها
وفيما تضرب واشنطن والغرب أخماسا في أسداس عن حدود الشراكة الصينية الروسية، وفي المجالات العسكرية والتقنية بالذات، خصوصا بعد زيارة وزير الدفاع الصيني إلى موسكو قبل أسابيع، وتدافع التساؤلات عن دور بكين في تطوير البرنامج الروسي لصناعة الطائرات المسيرة، وصمت موسكو وبكين عن الحقائق والأسرار العسكرية، مع إعطاء بكين فسحة مرونة في الموضوع الأوكراني، والحديث عن مبادرة السلام الصينية، التي تنتقد توسع حلف «الناتو» باتجاه روسيا، سواء بسواء مع رفض بكين لأحلاف أمريكا في المحيط الهادئ، واستفزازاتها المتلاحقة في بحر الصين الجنوبي وحفز انفصال تايوان عن البر الصيني، ولجوء بكين إلى تنظيم مناورات بحرية وجوية مشتركة مع موسكو في المحيط الهادئ، والامتناع الروسي الصيني عن تأييد أي عقوبات جديدة ضد كوريا الشمالية في مجلس الأمن الدولي، بل استخدام تجارب بيونغ يانغ النووية والصاروخية كأداة ضغط على واشنطن واليابان وكوريا الجنوبية، وهو ما يستفيد منه كيم، بفرض قوته النووية كأمر واقع نهائي، وبتطوير صواريخه «الباليستية» بعيدة المدى، وبالأمل في دعم موسكو لبرنامج «الأقمار الصناعية» العسكرية في كوريا الشمالية، والإفادة من انفتاح موسكو وبكين لتلبية رغبات وحاجات بيونغ يانغ الغذائية والاقتصادية، ومن دون أن تخلو القصة من استدعاء للتاريخ لخدمة مصالح الحاضر والمستقبل، فكوريا الشمالية مقابل غريمتها وشقيقتها الجنوبية، كانتا نتاجا للحرب الأهلية الكورية، التي استمرت إلى نهايات يونيو 1953، ومن دون عقد اتفاق سلام دائم، بل بخطوط هدنة قائمة حتى اليوم عند الحدود المتوترة، وكانت واشنطن داعمة ولا تزال للطرف الجنوبي، بينما دعمت الصين وروسيا (الاتحاد السوفييتي وقتها) قوات الطرف الشمالي، ولم تفلح محاولات توحيد «الكوريتين»، بعد نهاية الحرب الباردة القديمة، وفيما نهضت كوريا الجنوبية على نحو متسارع، وباتت واحدة من اقتصادات العالم الكبرى، بينما أغلقت كوريا الشمالية الأبواب والنوافذ، وظلت على عقيدتها الشيوعية الخاصة، وأفرغت طاقتها في التطوير العسكري فالنووي، وراكمت كميات هائلة من الذخيرة والأسلحة المصنعة على أساس النماذج الروسية «السوفييتية»، وكما لجأت واشنطن لاستنزاف مخازن الذخيرة في كوريا الجنوبية، ونقلها إلى ميدان حرب أوكرانيا، فهكذا تفعل روسيا اليوم الأمر نفسه، ولا تتخفى بسعيها لجلب الذخيرة من مخازنها المليونية في كوريا الشمالية، خصوصا مع تطابق العيارات ونظم المدفعية عموما، واعتراف كوريا الشمالية بحق روسيا في ضم الأراضي الأوكرانية، وهو ما يثير المخاوف وربما الفزع عند واشنطن والغرب عموما، فالذخيرة المتراكمة عند بيونغ يانغ، فوق إنتاج المصانع الروسية الكثيف بثلاث ورديات يوميا، تكفي روسيا لمد أجل حربها في أوكرانيا لسنوات، فوق ما يبدو من استعداد كيم لنقل قوات تعمل إلى جانب روسيا، إما بصورة نظامية أو كمرتزقة حرب، ولا تبدو من ممانعة عند موسكو، التي توسع نطاقات «المتعاقدين» مع الجيش الروسي من الروس أو من غيرهم، حتى من كوبا البعيدة، فالخطة الروسية على ما يبدو، تسعى لاستبقاء الهيكل الأكبر للجيش الروسي وقواته الصاروخية والنووية، بعيدا عن الميدان الأوكراني، وربما استثمارها في الإعداد لخوض حرب عالمية ثالثة، قد تنزلق إليها التطورات الجارية، مع أي خطأ وارد في الحساب، ويبدو التصور الروسي منتجا حتى اليوم، خصوصا مع الفشل المبين للهجوم المضاد، ونجاح روسيا في الاحتفاظ بأراضي أوكرانيا التي ضمتها، وفي حرق الأسلحة الغربية المتطورة، والإخفاق الظاهر في خطط عزل روسيا، التي تمد علاقات شراكة إلى مستوى التحالف العسكرى مع بكين وبيونغ يانغ وربما طهران، وتبنى تحالفات اقتصاد وبترول وغاز طبيعي مؤثرة، وتكسب سياسيا في آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وفي قلب افريقيا، التي تتوالى فيها انقلابات السياسة والسلاح، وتخلع عن نفسها الكثير من نير التحكم الغربي بمصائرها، وتدخل في دوامة تغيرات عالم جديد، لن تكون واشنطن فيه الآمر الناهي كما تعودت لعقود، بل محض «قوة عظمى» بين متعددين، لن تكون أولاهم بالتأكيد، مع زحف موسكو إلى اختراق عسكري في أوروبا، وزحف الصين اقتصاديا وتكنولوجيا إلى عرش العالم .
«دانيال» والزلزال: وكأن العرب ينقصهم المزيد من المآسي، فقد تدافعت صور دمار يفطر القلوب، من زلزال المغرب في إقليم الحوز غرب مراكش، وإلى عصف إعصار «دانيال» في مدن الشرق الليبي، والشهداء في البلدين بعشرات الآلاف حتى اليوم. وربما لا تكون أحاديث السياسة، ولا نقد الحكومات، ولا سواه مما يستساغ في حضرة الكوارث الطبيعية، ولا حتى التنطع في تفسيرات المسوح الدينية، من نوع ما ذهب إليه معمم معروف في العراق، اعتبر نكبة الليبيين عقابا إلهيا على تغييب الإمام الشيعي موسى الصدر، واعتبر زلزال المغرب عقابا على سلوك سياسي. مثل هذه الأفواه، يجب أن تغلق بالضبة والمفتاح، ولا يلتفت إلى أقوالها البائسة في هذه الظروف، فواجب الوقت هو التضامن الأخوي الصادق، وبذل أقصى الجهد في مد يد العون للمنكوبين، وجبر الضرر المريع، الذي لحق بالإخوة المغاربة والليبيين، وفي ذلك فليتسابق المتسابقون، ومن دون أدنى التفات إلى طبائع الحكومات والانقسامات السياسية، فالضحايا من شعوب الأمة لا من حكوماتها وحكامها، الضحايا تحت الركام في قرى «المغرب» الجبلية، غمرتهم سيول الإعصار في مدن الشرق الليبي، وفي درنة بالذات، التي تلاشت معالمها الجميلة، وجرفتها مياه الإعصار مع البيوت والجثث إلى عرض البحر. ومع تداعى المشاهد المرعبة، والأحزان التي تعتصر القلوب، لا يصح أن نحول المأساة إلى ملهاة، وأن نفتح أسواق المزايدات والمناقصات في تفاسير السياسة والدين، وفي تصوير كوارث الطبيعة كانتقام إلهي من الفقراء والمساكين، والعياذ بالله سبحانه مما يخرصون ويهرفون، ومن إصدار فتاوى سياسية عن خلافات المغرب والجزائر، ورش الملح على الجراح المفتوحة في أوقات الموت بالجملة.
كاتب مصري