زلزال علوان الناعم


منذ أن أُعلن في الخامس والعشرين من شهر أبريل/نيسان عن فوز محمد حسن علوان بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته «موت صغير» وردود الفعل تتوالى ما بين مهنئ ومستنكر، فرح وغاضب، مبتهج ومحتج. وإذ يمكن فهم سر الفرح الغامر عند قراء وأصدقاء النجم البوكري الجديد، يصعب استيعاب معنى ومبررات ذلك الرفض الصريح والمضمر لفوزه، خصوصاً ضمن دوائر المتعنتين ممن ينتمون إلى ما يُعرف بالمراكز الثقافية، حيث كان حصوله على أهم جائزة للرواية العربية، بمثابة النقطة التي أفاضت كأس غضبهم، خصوصاً أن تتويجه يأتي بعد فوز عبده خال ورجاء عالم مناصفة مع محمد الأشعري في دورتين سابقتين. وبالتالي فإن تثليث النتيجة خلال عشر دورات يعني استئثار السعودية بالنصيب الأوفر من الجائزة، وهي نتيجة لا يمكن التسليم بها عند فصيل من المثقفين الذين ما زالوا ينظرون إلى دول الخليج كمحطة متخثرة من التاريخ ومناجم للمال لا للإبداع.
جائزة البوكر ذاتها أتهمت في بواكيرها بأنها جائزة نفطية، يُراد بها تدمير الخطاب الروائي، إلا أن الذين وجهوا لها كل ذلك السيل من الشتائم والاحتقار لم يمتنعوا عن الاشتراك فيها، سواء كمتسابقين أو ضمن لجان التحكيم.
وخلال عقد من الزمن تحولت إلى حدث ثقافي تتجاوز أصداؤه الحقل الروائي، حيث ساد الاعتقاد بأن نتائجها لا تخضع لمعايير فنية بقدر ما هي منذورة للتوزيع على شكل محاصصة ثقافية، بحيث ينالها كل عام روائي من قُطر عربي، على الرغم من وهن تلك الدعاوى بمقتضى النتائج خلال الفترة الماضية، ولذلك جاءت الترجيحات هذا العام باتجاه رواية «زرايب العبيد» لليبية نجوى بن شتوان، أو إلى أي روائي آخر، إلا أن يكون من السعودية. ولذلك نزلت النتيجة على أولئك نزول الصاعقة، ليس لأن محمد علوان من السعودية وحسب، ولكن لأنه انتصر بروايته على روائيين ذوي سمعة ومكانة. وكأنه يؤكد زحزحة المراكز الثقافية عن مواقعها.
زلزال علوان بكل توابعه وتمدده الناعم البطيء، هذا هو عنوان النتيجة واللحظة الثقافية عند فحص وتأمل ردود الفعل الآخذة في التوارد، إذ لا يمكن للآخر العربي، الذي حبس الإنسان الخليجي في الصورة النمطية للبدوي المستنقع في لحظة تاريخية متخثرة، أن يتخيل بأن شابًّا خليجياً يمكن أن يكتب ويبدع ويتفوق. وبدون أي محاولة لمطالعة الرواية أو مناقدتها، انهمرت عبارات التخوين والتبخيس والاحتقار، مع إصرار غير مفهوم على عدم قراءة الرواية، أو الاقتراب من عالم محمد حسن علوان، الذي لا يكتب الرواية على إيقاع الحضور المجاني، انسياقاً وراء طابور طويل من المتطفلين على الكتابة الروائية، فهو يحمل شهادة الدكتوراه، وله تاريخ حافل ومشرف في كتابة الرواية، من خلال رواياته ذات الصدى الواسع عند القراء مثل: «سقف الكفاية، صوفيا، والقندس»، التي حصدت جائزة الرواية العربية المترجمة إلى الفرنسية. وبتصوري أنه سيكون ثالث ثلاثة، بعد يوسف زيدان وسعود السنعوسي، تعتد بهم البوكر ويمثلون استراتيجيتها، وسيكون اسماً مهماً يمكن الاستثمار فيه والرهان عليه.
إذن محمد حسن علوان ليس طارئاً على الرواية، وعندما كتب رواية «موت صغير» لم يكتبها ليؤكد سعوديته، فهذا ليس همه، بل لا يوجد في سياق الرواية ما يشي بأي شيء سعودي، فقد كتبها بمقتضى إخلاصه لفن الرواية كمكتسب إنساني يتجاوز حتى محدودية الأفق العربي، لأنه كروائي ينتمي إلى ذلك الفضاء الواسع، كما يمكن التقاط ذلك التعاقد مع الإنساني من خلال روايته، ولكن يبدو أن بعض المستغرقين في أوهام التفوق لا يريدون تصديق فكرة أن الإبداع لا وطن له، وأن الإبداع ليس حكراً على بلد أو فئة، لذلك ظهرت مواقفهم بذلك الشكل البالي المتخشب، الذي يحيل إلى كائنات هاجعة في قاع التاريخ، وذلك بموجب اعتقادات واهية في ذهنياتهم بأن الخليج العربي يحتاج إلى سنوات ضوئية ليظهر منه كاتب يمكنه الوقوف عند كتف عمالقة المركز.
محمد حسن علوان قادم من مجتمع تقليدي، منغلق، محافظ، ومسلوب الحرية، ولا يمتلك تاريخاً في التقاليد السردية. ومن الوجهة الثقافية هو ينتمي إلى الهامش مقارنة بالمراكز الثقافية، هذه حقائق لا يمكن التجادل حولها، وهو ابن هذا المجتمع، حتى إن أقام بشكل مؤقت في كندا، ولكنه كفرد غير ملزم بأداء الفروض الامتثالية التي يؤديها مجتمعه، وبمقدوره أن يفكر ويبدع خارج إلزامات وإكراهات الجماعة، خصوصاً أنه يكتب الرواية، والرواية هي خطاب الفرد ضد الشمولي والمركزي والامتثالي، خطاب الفرديات المنفتحة في وجه الجمعيات المنغلقة، وبالتالي فإن أي اتهام له بمقتضى التهم الجاهزة الموجهة لمجتمعه لا مكان لها عندما يتعلق الأمر بإبداعه. ومواقفه الخاصة وآراؤه الذاتية هي التي تمثله لا الرأي السائد في محيطه، ولذلك تبدو كل التهجمات عليه بموجب هذه المسطرة التي يمدد عليها مجتمعه على درجة من التهافت،كما تبدو كل المشانق التي أُعدت له ولروايته بمثابة فضيحة أخلاقية.
قد لا تكون روايته على تلك الدرجة من الاكتمال، فهي تخلو من التوتر الدرامي، كما تعتمد على لغة إخبارية بالدرجة الأولى. أما مشاهدها فمبتورة، خشنة النهاية مقارنة بالاستهلالات، وإيقاعها خاطف لا يتناسب مع طبيعة موضوعها الممتد بارتداد عمودي في التاريخ، كذلك يعاني تزمين السرد من بعض الارتباك، وهذه بعض ملاحظاتي الفنية عليها، ولكن كل ذلك لا يعني نسف الرواية والخروج في تظاهرة غوغائية لتحقير كاتبها، فهي رواية مكتوبة على شكل حبكات صغيرة تنعقد في سيرة ترحال أفقية، وتدلّل على جهد استثنائي، وعلى جدية في الكتابة، وعلى حساسية عالية بمواطن الجمال، وعلى خبرة كتابية جديرة بالاحترام، وهي بمعايير ما يُنتج من روايات عربية في الوقت الراهن تعتبر في مقدمة الفعل الروائي. فهذا هو الفضاء الذي تكتب فيه الرواية العربية عموماً، وربما لا تكون أفضل من الروايات الخمس التي نافستها، إلا أنها في المضمار والدرجة نفسيهما.
كالعادة، أُثير غُبار كثيف حول نتيجة البوكر لهذا العام، وقد قِيل بأن النية كانت مبيّتة لإيصال رواية «موت صغير» إلى منصة التتويج منذ أن أعلنت القائمة الطويلة، حيث أُزيحت رواية «المغاربة» لعبدالكريم الجويطي، وهي رواية قوية كان في مقدورها الفوز. كما قِيل بأن الروايات السورية المؤهلة للمنافسة تم استبعادها بالنظر إلى وجود عضو في لجنة التحكيم يقف بالمرصاد لأي روائي يعارض النظام، بمعنى وجود تصفية مبرمجة للروايات السورية. وقِيل بأن النتيجة كانت معلومة أصلاً، وقد تسربت قبل شهرين من إعلانها، بدليل ما صاحب لحظة الإعلان من رسائل إعلامية للتصديق على ما ذهبت إليه اللجنة. وفي المقابل جاءت النتيجة لتُبرئ البوكر من تهمة المحاصصة الثقافية.
أما الذين شكّكوا في النتيجة وراهنوا على استدعاء أسماء روايات وروائيين من بلدانهم، فقد توقفت أصابعهم عن العد قبل أن يصلوا إلى منتصف أصابع أول يد، حيث بدت الحقيقة صادمة بل مروعة.
هنا يكمن زلزال علوان فالرواية العربية لها سقف فني منخفض يضغط الجميع تحته، سواء كان روائياً من عواصم الظل والأطراف أو من المراكز. وما تلك الروايات التي تحظى بعدد من الترجمات ويتجول مؤلفوها في رحلات سياحية حول العالم، إلا حفلة علاقات عامة. تماماً كتلك الروايات التي يجيد كُتّابها الترويج لها في مواقع التواصل الاجتماعي وبيع الأوهام على مدّعي القراءة. ومن يتأمل الأسماء التي يتكرر حضورها في مجمل الجوائز فسيجدها محدودة، بمن فيهم محمد حسن علوان الذي كان يمكن أن يحصد الجائزة في دورة سابقة، حيث تأهل للقائمة القصيرة، ولذلك لم يكن من المستغرب أن يفوز هذه المرة إلا بالنسبة للذين ما زالوا يعتقدون أن نادي التفوق الأدبي محجوز لهم، وأن المبدع الخليجي محله المدرجات. وهذا هو بالتحديد ما فجر جدلية المركز والأطراف بشكل يخالف المنطق والحقائق الثقافية.
لا ذنب لمحمد حسن علوان إذا لم يرغب الآخر العربي في التعرُّف على جيل جديد من الأدباء والشعراء والفنانين والمترجمين والنقاد في الخليج، بل من المعيب والمخجل أن يستمر المثقفون العرب في التعامل مع المثقفين المعروضين في فترينات المؤسسات الثقافية الخليجية، أو المثقفين المحمولين على ضجيج الميديا. وإذا أرادوا بالفعل أن يتعرفوا على المشهد الروائي في السعودية – مثلاً- فليتجاوزوا محطة رجاء الصانع التي عينوها بعجزهم عن المتابعة وامتناعهم عن البحث ناطقاً رسمياً للرواية في السعودية، حتى الأسماء التي يعرفونها في سياق الأخبار تستحق القراءة للتماس مع حقيقة المنجز. ولتكن رواية («موت صغير» مدخلاً لضبط النفس، والتواضع أمام الإبداع، والالتفات إليها كرواية بغض النظر عن القُطر الذي يعود إليه كاتبها. وكل كلام عن الرواية من دون قراءتها لا قيمة فنية ولا أدبية ولا أخلاقية له، لأن اللحظة لا تعمل بشكل آلي في خدمة الموهومين بالتفوق، بل لصالح الذين يجيدون التعامل مع الاستحقاقات الأدبية.
كاتب سعودي
qad
qpt

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    مبارك للمملكة العربية السعودية هذا الفوزالثقافي في مضمارالرّواية ؛ الذي تستحقه عن جدارة الفرســــــــان ؛ فهي مؤول الأدب العربيّ منذ القديم ؛
    والعمل الصالح يفرض نفسه في نهاية المطاف ؛ ولا يوجد عمل كامل من أعمال الأدب والقصص إلا قصّة يوسف الكريم { أحسن القصص }.
    أما الذين يغتاظون من الفوزفهم الذين لا يستحقونه أساساً.لدينا مثل شعبي مضمونه : ( القافلة تسيروالكلاب تنبح ).فاأيها الفائزون رفعتم رأس بلادكم في مضمارالتسابق ؛ فواصوا العطاء بالتفوّق ؛ فإنما الفوزالمهمازلسموالتذوّق ؛ حتى تتجذروا في هيولي الأعماق وتبلغوا شآؤوس الآفاق ؛ كنخلة سحوق سخية الرطب كريمة الأعذاق ؛ ليكون ذكركم بفخرومجد في المغارب والمشارق..تشرأب له الأعناق والألسن النواطق.

  2. يقول فتحي أبو رفيعة:

    اذا كان أول القصيدة كفر، كما يقول المثل المعروف، وحصلت رواية بهاء طاهر “واحة الغروب” على أولى جوائز البوكر العربية، فلا غرو أن تتوالى هنات فريق الجائزة وتخطئ في اختيار الأمثل المرة تلو الأخرى. وحينما صدرت رواية بهاء طاهر، نشرت لي القدس العربي مقالاً عنها تحت عنوان “رواية نصف تقليدية ونصف حداثية، وأبطال نصف ثوار نصف خونة”، وهو مالم يعجب المؤلف، وكما يقول المثل “لم يعطني وجهاً” حينما التقيته في جنيف آنذاك. لنعترف إذن بأن لكل جائزة معاييرها ومبرراتها، بما في ذلك الجائزة الأعظم، وأقصد بها “نوبل” بالطبع. والله أعلم.

  3. يقول فتحي ابو رفيعة، الولايات المتحدة:

    تصويب (إضافات لازمة)

إشترك في قائمتنا البريدية