استخدام عناصر الوجود في الكتابة أمر مألوف، ولا يمكن الاستغناء عنه، لأن «العالم موجود لنكتبه» كما هو متاح لنا لنعيشه. لكننا منذ أن نبدأ الكتابة «يتحوّل» كل ما عشناه، وما عرفناه، إلى مادة «أدبية محض» تروي أرض الكتابة وتخصبها. أوهي تغدو مسؤّغاً لها، وركناً من أركانها، بما في ذلك أكثر الأشياء حميمية، وبالخصوص هذا الصنف من «الأشياء» والأمور المتعلّقة بها.
لجوء الكاتب إلى استخدام عناصر حياته الشخصية في الكتابة، إذا رأى ذلك ضرورة من ضرورات انجازها، لا يعني أبداً أنه يكتب سيرته الذاتية. لأن الحياة التي يعيشها الكائن «خضمّ» هائل الطاقة والتعقيد، ولا يمكن الإحاطة به حتى ولو شئنا، أو سجّلْنا ذلك يوماً بيوم. ماذا نفعل في هذه الحال بالأوهام والأحلام والخلائط الذهنية والوساوس والدسائس والمعلومات التي لا حصر لها التي نتلقاها كل لحظة من لحظات وجودنا؟ هذا، كله، فوق طاقة العقل على التصوّر، بلْه الاستيعاب، والاسترداد، وقيْئه من جديد.
«نقد» الكتابة، وبالخصوص الروائية منها، ليس «تلخيصها» وإنما هو تخليصها ممّا يمكن أن يعيق فهمنا لأبعادها الابداعية المحضة. وأول ما علينا أن نفعله عندما نبدأ قراءتنا النقدية لها هو إلغاء سيرة الكاتب أيّاً كانت الحميمية التي تبدو بينها وبين الكتابة. رَبْط الكتابة المبتسر، واللامجدي، بسيرة كاتبها، حتى ولو بدا ذلك أسهل الطرق للوصول إلى كشف خفاياها والإحاطة بها، أمر زائف وخطير إبداعياً. وهو، في الواقع، أسوأ السُبُل للفهم والادراك. إضافة إلى ذلك، فإن هذا الوصل، أو الإلْصاق، يقتل جدوى القراءة والاستيعاب، ويمنع من التفاعل العميق مع النص موضوع القراءة. النقد الحصيف يبحث في الكشف عن مزايا الكتابة تحديداً، وليس عن خفايا حياة كاتبها، حتى ولو صرّح الكاتب بأن ما يكتب هي حياته. تصريحه في هذه الحال خال من القيمة النقدية، ولا يصلح لكي نرتكز عليه عندما ننقد ما يكتب.
ابحثوا عن الدوافع العميقة التي تدفع الكاتب لكيْ يستعمل، أحياناَ، اسمه الشخصيّ ومعلوماته في سجل قيد النفوس، وتحرِّضه ليستعيد مكانه الذي عاش فيه، عندما يكتب.
حياة الكاتب، كما أتصوّر، هي أبأس الأمور التي يمكن أن نعثر عليها عندما نتحرّى عنها، وأقلّها شأناً في عملية «صنع الكتابة». الكتابة أكبر من كاتبها، وأكثر تعقيداً منه. وهي، بلا مبالغة، أهمّ من كل ما يمكن أن نعرفه من خفايا «مبدعها». الكاتب هو «طفل كتابته» وليس العكس. لا تبحثوا عن الوقائع، إذن، وأنما عن السِّمات، سمات الكتابة أقصد. وسماتها مختبئة في اللغة التي تُنْجَز بها، وليس في معلومات «مأمور الأحوال الشخصية» الذي يتقمّص بعض النقاد دوره.
ابحثوا عن الدوافع العميقة التي تدفع الكاتب لكيْ يستعمل، أحياناَ، اسمه الشخصيّ ومعلوماته في سجل قيد النفوس، وتحرِّضه ليستعيد مكانه الذي عاش فيه، عندما يكتب. إذهبوا أبعد ممّا تقرأون قليلاً، لتجدوا، ربما، ما يحرّك الكاتب، ويدفعه للكتابة بهذه الطريقة، ولس بأخرى غيرها. ما يتجلّى في الكتابة من معلومات مهما كانت حقيقية وواضحة ليست إلاّ بعض أبعاد مخيّلة الكاتب المتحفِّزة أثناء الكتابة، لاغير. تلك ليست معلومات بسيطة، أو مرمية بلا قصْد، وإنما هي علامات. علامات من علامات الوجود الكثيرة التي يلجأ الكاتب إليها ليبني نصه بهذا الشكل، وليس بشكل آخر.
وفي النهاية، الكتابة لغة. مادتها لغوية. وجوهرها لغويّ. وهي يجب أن تُنقَد من هذا المنظور، وليس من أي منظور آخر. لا علاقة للكتابة بالحقيقة. ولا يهمها أن تتطابق مع الواقع، ولا مع الوقائع. ونقدها، في هذه الحال، ليس التلخيص ولا الإحالة إلى دفاتر الأحوال الشخصية، وإنما يقتضي مقاربة أخرى أكثر تعقيداً، وإثارة.
كاتب سوري
{ وفي النهاية، الكتابة لغة. مادتها لغوية. وجوهرها لغويّ. وهي يجب أن تُنقَد من هذا المنظور، وليس من أي منظور آخر }.هذه العبارة أخي دكتور خليل تستحق المناقشة؛ خاصّة بشأن الرّواية العربيّة.أرى؛ والرأي كما قال الشاعرالمتنبيّ: { الرأي قبل شجاعة الشجعان**** هوأوّل وهي المحلّ الثاني }.أنّ لكلّ أمّة نسق روائيّ يتسق وشخصيتها القوميّة؛ وأبرز معالم هذه الشخصيّة للعرب اللغة…ورغم أنّ الرّواية الحديثة في العالم مستوحاة من النهضة الرّوائيّة الأوربيّة؛ فإنّ الرّواية العربيّة شخصيتها البارزة تكمن في اللغة.وليست هي الرّواية فقط بل كلّ مشروع أدبيّ فكريّ عربيّ؛ مهمازه اللغة.وخصوصيّة اللغة العربيّة تجذرت واستقرّت في ضمير الأمّة وليس فقط في لسانها؛ منذ تدوين القرآن…فاجتمع فيها الدال والمدلول سيّان.وكلّ محاولات للفصل التي سعت طويلًا لقلب هذه الحقيقة باءت بالخسران…
عليه الرّوائيّ الذي ليست لديه ثروة لغويّة؛ ليست لديه قدرة روائيّة؛ ولو امتلك خيال ألف شاعر ساعة الشروع بكتابة الرّواية.وفي تقديري تقييــم العمل الرّوائيّ العربيّ ( يجـب ) أنْ يكون في لغة النصّ؛ لا في الفكرة ولا في جوانب الكتابة الرّوائيّة ( الفنيّة ).من دون شخصيّة اللغة العربيّة لا رواية تستحق أنْ تحمل صفة الرّواية؛ لا في مصر ولا في العراق ولا في بلاد الشام ولا في غيرها من الأقاليم.إنّ هذا ( التذبذب ) في الكم الرّوائيّ العربيّ المعاصر؛ سببه فقدان الشخصيّة اللغويّة في النصوص؛ وهو نوع من التحايل بين حراميّة الكتابة وسراق النصوص.والسرقة ليست بالضرورة الاستلال خلسـة بل من اللصوصيّة الغفلة عن الكنز الطافح ؛ وهوبين يديك يتسرّب كماء النهر العذب إلى البحرالمُلح…ليكون أجــاجًا ياصاح.فمثلما تريد أنْ تكون طبيبًا ناجحًا…لابدّ لك من دراسة علم الطبّ؛ وإلا كيف تعالج المريض؟ وإلا لا فرق بين المُعالج وبين ( عيادة ) العطّـار أيام زمان.
اتفق مع رأي الدكتور جمال البدري أن اللغة في الرواية العربية أساس للنص.ومقال الاستاذ قاسم حداد المنشور اليوم في القدس يؤيد هذا الرأي.الكثير من رواياتنا مكتوب بلغة نص كما , كما يقولون.
نعم اللغة العربية مفتاح الفكر والفن والأدب العربي قديما وحديثا.واليوم نرى ضعف الأدباء بلغتهم التي هي أداتهم في الانجاز.لذلك لا إنجاز كبير لديهم.الاوربيون يكتبون بلغتهم فأصبحوا ناجحين.تعلموا العربية ففيها المروءة وصلة الرحم والإبداع.
حتى عندما يحاول الكاتب الكتابة عن ( ذاته) فهو مضطر إلى تشكيل ( ذات ) متخيل يسقط عليها صورته لذاته، ولا يصنع منها نسخة طبق الأصل، وهمٍ بهذا المعنى يشكل ذاتاً متخيلة لا ذاتاً حقيقية.
إن الذات الحقيقية توجد في الواقع الموضوعي الذي يُوهِمُ به الكاتب، أما الذات المشكَّلة في نصّه فهي ذات متخيلة مصنوعة من الورق، أو هي ذاته كما تمنّاها لا كما تموضعت في واقع معين، ولعل هذا ينطبق على ( طه حسين ) المتخيَّل الذي شكلته سوزان طه حسين في كتابها ( معك ) الذي هو إعادة تشكيل لذات صنعتها زوجته، وهي ذات مضاف إليها رؤية هذه الزوجة العاشقة التي لم ترَ في حبيبها سوى صورة مثالية خالية من العيوب.