■ سامي مهدي شاعر عراقي ولد في بغداد سنة 1940. صدرت له مجاميع شعرية عديدة منذ «رماد الفجيعة» في عام 1966، كما ألف في حقلي الدراسة الأدبية والترجمة الشعرية؛ مثل: «أفق الحداثة وحداثة النمط» 1988، و«الموجة الصاخبة ـ شعر الستينيات في العراق» 1994، و«سنابل الليل ـ مختارات من الشعر العالمي» 2000، و«آرثور رامبو: الحقيقة والأسطورة» 2011.
ينتمي الشاعر تحقيبياً إلى جيل الستينيات الأكثر شهرة بين أجيال الشعر العربي الحديث، واعتبر أن هذا الجيل أسس لبلاغة جديدة وأسهم في تطوير تقنيات القصيدة الحديثة وتوسيع آفاقها الفنية وحمولاتها الدلالية.
غير أن الشعر العراقي ـ في نظره ـ تراجع دوره اليوم، بل إن الشعر العربي في أزمة عميقة، وباتت ظاهرة عالمية لا تختص بشعر لغة من اللغات. كما أنه لم يُخْفِ تشاؤمه من مستقبل الثقافة العربية.
■ في هذه المرحلة من العمر، وبعد مسار إبداعي مديد، هل تعتقد بأنك أتممت مشروعك ال شعري، أو على الأقل حققت ما كنت تطمح إليه، كما يوحي به عنوان ديوانك الأخير؟
□ أظن أن مصطلح (مشروع) مقحم على عالم الشعر ومفاهيمه. فالشاعر الحق مجرد شاعر وليس صاحب (مشروع) يخطط له، ويحسب حسابات نجاحاته وإخفاقاته. وإذا جادلنا وأردنا أن نعده من (أصحاب المشاريع) فمشروعه إذن مشروع مفتوح هو: حياته الشعرية، فهو يكتب الشعر فحسب، يكتبه حتى يتوقف لأي سبب كان: الموت، المرض، الشيخوخة، الإفلاس، تصاريف الحياة.. إلخ. وتأتيه في سياق ذلك، في سياق عملية الكتابة وأسئلتها، رؤى خاصة وأفكار واجتهادات تتعلق بفنه الشعري وبفن الشعر من حوله، فيكتمها أو يبوح بها، ويتحدث عنها ويجادل حولها، وهذا أمر طبيعي في ما أظن. أما إذا شاء أن يجعل منها (مشروعاً نفعياً) له أهداف واستراتيجيات وإجراءات، أو يؤسس بها حزباً شعرياً خاصاً، فذلك يقع خارج منطقة الشعر في رأيي، لأن الشعر مغامرة فردية. شخصياً، بدأت كتابة الشعر منذ صباي، فجأة وجدت نفسي في عالم الأدب والثقافة، فجأة وجدت نفسي أعنى بالكتاب وبالكتابة، فجأة أخذ الشعر مني جل اهتمامي، فكتبت الشعر بدون أن أعلق على كتابته أي طموح من أي نوع.
لم أفكر بجائزة أو شهرة أو جاه أو مكانة اجتماعية أو شهادة تقديرية أو.. أو.. كنت أكتبه فحسب، أكتبه لنفسي، وكذلك بقيت. وقد صدر لي حتى اليوم عشرون مجموعة شعرية، لا أدري إن كنت قد بلغت بها أي شأو، فذلك من شأن النقاد والدارسين، ولكنني كنت من نخبة صغيرة من الشعراء، أرادت في ستينيات القرن العشرين أن تصل بالقصيدة إلى أعلى وأحدث ما وصلت إليه القصيدة الحديثة في العالم، بتقنياتها وإنجازاتها الفنية.
فالتأمت، وتحكمت المصادفة في التئامها إلى حد كبير، ولكن كان لكل منهم رؤيته الخاصة واجتهاداته ومواهبه ومهاراته، وعلى قدر أهل العزم أتت العزائم. كان لكل منا منجزه وإسهامه، قل أو زاد. ولكننا، بمجموعنا، وكل من جانبه، نجحنا في كتابة قصيدة مختلفة عن قصيدة الرواد، وأكثر حداثة منها. قصيدة تطهرت من بقايا الخطابية، والميوعة الغنائية والرؤية الرومانسية للحياة، وتخلصت أو كادت من الشعاراتية، واستخدمت الرموز والأساطير بطريقة مختلفة، وتجنبت الاستطرادات الجانبية، وما فيها من تطويل وتفريع، وأسست لبلاغة جديدة غير البلاغة التقليدية، وحاولت الكتابة بلغة جديدة، وانفتحت على الفنون الأخرى، من قصة ومسرح ورسم وتصوير وسينما وغيرها، وتفاعلت معها واستفادت من تقنياتها، وتوجهت إلى عالم الشاعر الداخلي، بدون أن تقطع صلتها بالعالم الخارجي، وبهذا كله، وربما بغيره أيضاً، أنجزت، في ما أظن، مهمتها الفنية التاريخية، فأسهمت في تطوير تقنيات القصيدة الحديثة، وتوسيع آفاقها الفنية وحمولاتها الدلالية، فكانت بوجه عام قصيدة أعمق وأغنى، وأبعد أفقاً، وأكثر حداثة.
■ أنت شاعر يحظى الإيقاع عنده بخصوصية فريدة، وهذا ما يفسر حضور الغنائية في شعرك. ما رأيك في من يقول بنهاية الغنائية، وبأن رهان النثرية ولا تمركز الصوت هو مستقبل الشعر؟
□ أنا أكتب القصيدة كيفما تأتيني. موزونة أو غير موزنة (نثرية) مقفاة أو بلا قافية، قافيتها موحدة أو متنوعة، ولي اجتهادات خاصة في الأوزان والتصرف بها، وكان كل ذلك يمنحني حرية كبيرة في الكتابة، ولا يملي عليّ أي شروط خارجية أياً كان مصدرها، تراثياً أم حداثياً. كنت أفعل ذك وما زلت أفعله، بغض النظر عمن يُنظّرون للشعر ويجترحون له المفاهيم، ويبحثون عن أغطية نظرية يتحذلقون بها ويسترون قصورهم الشعري. وما دمت تتساءل حول (حضور الغنائية) في شعري فإنني أقول: لا بد للشعر من بعض الغنائية، وإلا جف وبرد وتيبس واختل توازنه. لكن أزمة الشعر اليوم أعمق من أن تعلق أسبابها على ما تسميه أنت (حضور الغنائية) و(تمركز الصوت). الشعر اليوم، بكل أشكاله، في أزمة عميقة، ولا أرى في ما يُكتب منه اليوم شيئاً يستحق المراهنة عليه. فهو يعاني من أزمة خاصة، داخلية، أزمة فيه هو نفسه، على الرغم من أن العالم يعج بمئات الألوف من الشعراء والمتشاعرين. وهذه الأزمة ظاهرة عالمية، لا تختص بشعر لغة من اللغات، أو شعر أمة من الأمم، بل هي تشمل الشعر في كل اللغات وعند جميع الأمم، بما فيها الأمم ذات التراث الشعري الغني والعريق، رغم وجود الاختلافات والتباينات.
ما زال نقد الشعر العربي يتطوح بين تيارين: تيار يجتر المفاهيم والأفكار القديمة، وآخر متأهب كأي تاجر لاستيراد أي شيء جديد يراه في الأسواق الخارجية.
ويمكن وصف هذه الأزمة بإيجاز بأنها: العجز عن كتابة شعر يخرج من أسر الأصوات الأولى المؤسسة للشعر العالمي الحديث، وهيمنة النماذج التي كرستها المغامرات الفردية لشعراء عالميين استثنائيين. وقد ظهرت بوادر هذه الأزمة بعد الحرب العالمية الثانية، وتفاقمت في ما بعد، حتى بلغت ذروتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وأبرز مظاهرها: غياب المواهب الشعرية الاستثنائية، واختفاء المواهب الكبيرة تدريجياً بحكم سنة الحياة، وضعف المواهب الجديدة. وبسبب ذلك تحولت الكتابة الشعرية على أيدي الأجيال اللاحقة إلى (صناعة تلفيقية) أو (حرفة صناعية) تعويضاً عن ضعف الموهبة ونقص المهارة، وبذريعة الخروج على النمطية والقولبة والبحث عن أشكال جديدة، ولذا فإن حديث الرهانات، كما يبدو لي، حديث لا جدوى منه.
■ ما هي أبرز المصادر التي شكلت الوعي الشعري عندك ؟ وما نصيب الزمن الباريسي من هذا الوعي؟
غياب المواهب الشعرية الاستثنائية
■ ليست هناك مصادر معينة شكلت معرفتي ووعيي الشعري، فقد كنت أسعى بقدر استطاعتي إلى التعرف على الشعر العالمي قديمه وحديثه: الإنكليزي والفرنسي والروسي والإيطالي والألماني واليوناني والأمريكي وغيرها. وأقرأ كل ما يقع بين يديّ من أبحاث ودراسات عنه، بل إن اهتماماتي الثقافية كانت أوسع من ذلك بكثير منذ صغري، كنت أقرأ في القصة والرواية والمسرح والنقد والفلسفة والتاريخ والفكر العام، كنت أقرأ في كل حقل، وذلك ما شكل معرفتي ووعيي، في الشعر وفي غيره، وربما أثر بي تأثيراً خاصاً شيء من هنا وشيء آخر من هناك، ولكنني لا أستطيع أن أحدد مصادر بعينها لتشكيل وعيي الشعري، وإن كانت المصادر الإنكليزية والفرنسية هي الأقرب إلى نفسي.
جيل الستينيات في العراق أسس لبالغة جديدة
■ ماذا تبقى من شعر جيل الستينيات الذي تنتمي إليه؟ وهل تتفق معي في أنه كان ضحية مرحلة سياسية محبطة، ولم يأخذ حقه في الدرس النقدي؟
■ بقي من شعر الستينيات ما أنجزه شعراؤها، وقد سبق لي الحديث قبل قليل عن هذا المنجز وتوضيح خطوطه، وهؤلاء الشعراء في رأيي ليسوا ضحية، هم شعراء مرحلة عاشوها بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، شأنهم شأن شعراء المراحل الأخرى، وقد أخذ كل منهم استحقاقه من الدرس النقدي، والشعر الستيني ما يزال يدرس ويدرّس حتى اليوم في البحوث والدراسات الجامعية.
■ في راهن العراق الشعري نلامس تداخل الاتجاهات من اليمين إلى اليسار، بشكل لا يرسم الأفق الذي يتجه إليه الإبداع. هل ثمة ارتدادات جمالية للمنجز نتيجة وعي ملتبس نابع من الانسحاق الأيديولوجي ومن عماء اللحظة؟
■ حصل عندنا شبيه من بعض الوجوه، بما حصل في العالم كله، فقد رحل الشعراء الرواد، والمواهب الكبيرة اختفت أو شاخت، والمواهب الجديدة تبدو أضعف من أن ترفد شعرنا الحديث بجديد مهم، تستمر به السيرة في تقدمها وصعودها، والذين لجأوا إلى كتابة قصيدة النثر، أو لاذوا بالهايكو والشذرات، بذريعة المضي في عملية التحديث، والتحرر من قيود الوزن، والتخلص من النمطية وهيمنة النموذج، خدعوا أنفسهم قبل أن يخدعوا غيرهم، والمشكلة اليوم أن الأجيال الجديدة أخذت بالدعوة إلى كتابة قصيدة النثر، وبذلك لم تتخل عن الوزن فقط، بل تخلت بدون وعي عن التقنيات الفنية الضرورية لبناء القصيدة الحديثة، التي تتجلى فيها موهبة الشاعر وثقافته ومهاراته الفنية، وانساقت إلى التهاون والاستسهال واتخذت من جمال الجملة الشعرية المفردة، وطرافة الصورة، وغرابة المفارقة، معياراً وحيداً لإنشاء القصيدة، وجاء ذلك تعويضاً عن ضعف الموهبة، وقلة الخبرة، ونقص المعرفة والمهارة، فتحولت القصيدة إلى كتابة إنشائية باهتة على المستوى الفني، وضحلة على المستوى الدلالي، ولو تلفتَ حولك اليوم من أقصى المغرب العربي إلى أقصى المشرق، لما عثرت على موهبة شعرية كبيرة جديدة، قادرة على تقديم إنجازات شعرية بأهمية الإنجازات التي قدمها الرواد، والجيل الذي أتى بعدهم، وستضيع في طوفان من الكتابات الإنشائية الهزيلة، التي تدعي الشعرية وتبحث لنفسها عن أغطية نظرية تسوغها، وهي ليست من الشعر في شيء.
■ لعب الشعر العراقي دوراً دائماً في تخصيب الشعرية العربية وتحديث رؤاها الجمالية. ألا تعتقد معي أن هذا الدور قد قلّ في ظل الظروف السياسية للبلد، وظهور مراكز شعرية جديدة في الأطراف؟
تراجع دور الشعر العراقي
□ نعم، تراجع دور الشعر العراقي لأكثر من سبب، منها الظروف التي أشرت إليها، ولكنني لم ألحظ (ظهور مراكز شعرية جديدة في الأطراف) كما تقول، أو أن هذه المراكز ليست من القوة والجاذبية بحيث تلفت النظر إليها بما لديها من اقتراحات جمالية جديدة تقدمها فتغريك بما تقدمه.
■ كيف تنظر إلى وضعية نقد الشعر العربي راهناً، بعد عقود من السجالات الجمالية والثقافية التي ساهمت في تحديث الشعر والتحليق به؟
□ ما زال نقد الشعر العربي يتطوح بين تيارين: تيار يجتر المفاهيم والأفكار القديمة، وآخر متأهب كأي تاجر لاستيراد أي شيء جديد يراه في الأسواق الخارجية. وليس بين هذين التيارين نخبة قوية تستطيع أن تشق للنقد مجرى جديداً، برؤى خاصة أصيلة ومؤثرة، وقد انغلق كل تيار على نفسه وعلى بضاعته، ولم يعد معنياً بأي سجال غير سجاله الداخلي.
■ زاوجت بين ممارسة الشعر ونقده؛ أيهما أفاد من الآخر؟
□ يحب بعض الأصدقاء أن يطلق عليّ لقب (الناقد) إضافة إلى لقبي الشعري، وأنا في الواقع لست ناقداً، أنا شاعر يحب أن يبدي آراءه وانطباعاته في ما يقرأ، ويدونها في مقالات ودراسات، على سبيل المشاركة الفاعلة في الحياة الثقافية، وبذلك يكون له صوت بين أصواتها.
■ عملت في الصحافة والدبلوماسية الثقافية، وعاصرت أجيالامن المثقفين والكتّاب والشعراء، وكنت شاهداً على مرحلة ثرية وملتهبة من الصراع الفكري والثقافي، كان لها دوي وامتداد في كل ثقافات العالم العربي. ما رأيك في مستقبل الثقافة العربية؟
□ نعم، عملت في الصحافة وفي مواقع ثقافية قريبة منها أكثر من خمسة عقود، عرفت خلالها الكثير من الأدباء والمثقفين العرب معرفة مباشرة، وقد لاحظت أن النصف الثاني من القرن العشرين كان مرحلة صعود وتألق في الحركة الثقافية العربية، كانت يومئذ حركة نشيطة متحررة تبحث عن هواء جديد تتنفسه، ولكنها بدأت بالنكوص والتراجع في نهايات القرن، وليس فيها في المدى المنظور اليوم ما يدعو إلى التفاؤل.
■ كيف عشت زمن كورونا؟ وهل كتبت شيئًا من وحيه واختلاطاته؟
□ هذا الوباء أضاف إليّ حصاراً آخر فوق ما أعانيه من حصارات، ولكنني لم أكتب شيئاً من وحيه.
■ هل ما زال حماس الكتابة والإيمان بدورها هو نفسه، أم تراجع نتيجة تغير الزمن وتراخي النظرة للعالم مع «السرب الأخير»؟
□ نعم ما زلت أكتب بالقدر نفسه من الحماسة، ولكن إنتاجي قلّ، وما زلت أومن بأن للكتابة دوراً في الحياة وتأثيراً فيها وإن يكن خفياً وبطيئاً.
■ إذا عدت اليوم إلى كرخ بغداد، ماذا ستحمل معك للذكرى الباقية؟
□ لم يبق شيء من كرخ بغداد، بل لم يبق شيء من بغداد كلها غير الذكريات، فقد غزاها الريف حتى تخلفت كثيراً عما كانت عليه قبل عقود من الزمن، وأصبح البغداديون فيها محض غرباء.
كاتب مغربي
لقد لخص شاعرنا الكبير سامي مهدي أزمة الشعر في كل العالم وهو تلخيص محبط وحقيقي …ولكن الغد ينادي وسنستجيب