كتابان هما مبتدأ الجملة الزّجريّة لا الاسمية ولا الفعلية وخبرها، حاول من خلالهما د. مصطفى حجازي الكشف عن باطن الذات المصابة بفايروس التخلف، وما ينتج عنه من قهر وهدر، الكتاب الاول والذي صدر منذ فترة هو عن سايكولوجيا المقهورين، وكان لا بد من اتباعه بفصل آخر عن المهدورين، فالهدر غالبا ما اقترن بالدم وعلى نحو حسّي، لكنه في كتاب د. حجازي ‘الانسان المهدور’ يطال ما هو أبعد من الجسد والحواس، فالهدر يلحق اذا استشرى بالروح ايضا، وبكل المكونات المعنوية والاجتماعية والنفسية للبشر.
في كتابه الاول عن سايكولوجيا المقهورين توقف د. حجازي عند ما يمكن تسميته تخلّف الاساليب والمناهج التي توظف لاستقراء التخلف وظواهره، فالتخلف كالشقاء والبؤس اللذين اشار اليهما جان جاك روسو حين قال ان مجرد وجودهما في الواقع لا يخلق اي دافع للتغيير، والشرط لإحداث هذا التغيير هو وعي الشقاء وليس الشقاء فقط.
وما كتب في اللغة العربية عن التخلف قد يصل الى اطنان من الورق، لكن اكثره راوح بين توصيف سطحي ومقتربات اقتصادية واجتماعية بقي البعد السايكولوجي بعيدا عنها، وما يقدمه المؤلف هو استدراك هذا النّقصان المزمن في ثقافتنا، رغم ان محاولاته مسبوقة بأبحاث اجتماعية منها ما كتبه الراحل د . علي الوردي ود. حامد عمار وعلي زيعور ود. صادق العظم تحديدا في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة.
المقهورون ضحايا عوامل عديدة، لكنهم سرعان ما يضيفون الى جلاديهم جلادا آخر هو من صلبهم، لأن الاستلاب هو ارتهان لوعي مطابق للواقع وليس مفارقا له، ومن اهم الظواهر المرصودة لدى المقهورين آفة الاختزال، التي تحوّل الكائن الى مجرد عضو واخيرا الى مجرد وظيفة كما هو الحال بالنسبة للمرأة، ولا ينافس المرأة على كونها ضحية القهر في مجتمعات ذكورية وباترياركية غير الطفولة المهدورة، لهذا فالقهر والهدر معا هما قدر البشر الذين يتحالف ثالوث الجهل والفقر والتخلف على نزع آدميتهم بحيث يتحولون الى مجرد سلع او اشياء.
يقول د. حجازي ان لدى الانسان المتخلف ميلا سحريا لأنسنة الطبيعة، فهو يصورها على غرار الأم الرؤوم والمعطاء احيانا وعلى صورة الأب القاسي الذي يٌنزل اشدّ العقاب بأبنائه احيانا أخرى، فأول قهر يعانيه المتخلف قادم من الطبيعة وأنوائها وبالتالي عجزه عن الاستجابة لتحدياتها، لكن القهر يصل ذروته عندما يأتي من التاريخ سواء من خلال الاستبداد او الطغيان. ويذكّرنا هذا النمط من القهر بما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائد والمبكر ‘طبائع الاستبداد’ حيث يرى ان للاستبداد سلالة وله اسلاف وأحفاد، وضحايا الاستبداد من المقهورين يعيشون واقع الضرورة وليس الواقع المضاد لها وهو واقع الحرية، وهذه مناسبة للإشادة بتلك المبادرات التي اعادت نشر كتب من طراز طبائع الاستبداد للكواكبي وسايكولوجيا الجماهير لغوستاف لوبون في هذه الاونة الحرجة وبعد قرن من صدور الكتابين.
* * * * * * * *
يقول د. حجازي في كتابه عن الانسان المهدور ان احد اسباب تجنّب علماء النفس العرب لولوج حلقة بحث القضايا المجتمعية الشائكة هو تعاظم المحظورات، ومعنى ذلك ان معظم الباحثين يلوذون بالنجاة حين يتجنبون مثل هذا الكشف، ايثارا للسلامة. والحقيقة ان ما يحدث الان من انفجار المكبوتات البدائية لدى العربي هو حصيلة التأجيل والتجنّب لتشخيص امراض اجتماعية تحولت الى اوبئة عندما استشرت وانعدم اللقاح الذي يحدّ من تفاقمها.
لقد كتب باحثون عرب من قبل عن الشخصية الفهلوية والانتهازية التي تشبه الحرباء في سرعة تلوّنها وتأقلمها، وانتجت لنا هذه الشخصية رجالا ونساء لكل العصور، فهم صالحون للاستخدام بكل يد كالقفازات او الملاقط.
القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والأخذ من فوق، وبالتالي فالانسان
المقهور هو المغلوب على أمره، أما الهدر،فهو أبعد من ذلك لأنه يستوعب القهر، وحين يصل الهدر الى الفكر واستباحته فهو يتحول الى ابادة معنوية كاملة . وما يوازي هدر الفكر هدر الطاقات بمعنى مصادرتها او تبديدها في ما يشبه الانتحار او تدمير الذات.
وحين أعقب د. حجازي كتابه عن سايكولوجيا المقهورين بكتاب آخر هو سايكولوجيا المهدورين فذلك انسجاما مع تصوره للهدر بأنه يستوعب القهر ويتخطاه الى ما هو أشدّ استباحة وهتكا لانسانية الانسان.
* * * * * * *
هذه الابحاث التي تعلن العصيان على التأنق النظري والاكاديمي ويترجل مؤلفوها الى الشارع ومن ثم الى داخل النفس المهدورة، لا تلقى ما تستحق من اهتمام وصدى، فما يقوله د. حجازي عن تجنّب الباحثين للاقتراب من المحظورات له بٌعد آخر، هو تجنّب الناس احيانا لهذه الابحاث لأن قراءتها تتطلب شجاعة في مواجهة الذات ونقدها وبالتالي اسقاط الأقنعة التي حوّلت واقعا برمّته الى حفلة تنكرية في نطاق قومي، فالكاتب والقارىء ليسا دائما مجرد منتج للمعرفة ومتلق لها، انهما كما يقول هربرت ريد حليفان، والكاتب التقدمي الجسور الذي يقتحم الخطوط الحمر يقابله ويكون بانتظاره قارىء شغوف بهذه المغامرة، والعكس صحيح ايضا. وهناك ملاحظة بالغة الأهمية يشير اليها د. حجازي عن الديموقراطية، فهي تحولت في مجتمعات الاستبداد الى وسواس وكلّما ازداد الكلام عنها يعني ذلك ان نقيضها هو الفاعل، وهذا صحيح تماما فبعض المصطلحات اصبحت جاذبة وخاطفة للأبصار وكأنها ممغنطة او ذات طلاء فسفوري، رغم انها تستخدم خارج سياقاتها الأصيلة، وبالتالي ترصع بها مقالات وكتب كما لو انها حجارة كريمة تتوسط الطين الرّخو والجٍص.
ان هذه المتتالية السايكولوجية التي بدأت بالقهر ثم امتدت الى الهدر لا بد ان تصل الى الزّجر أيضا خصوصا وان لمصطلح الزجر صلة نفسية واجتماعية بالتربية، ولا أظن ان بيننا من يزعم بأنه لم يكن ذات يوم ضحية هذا الزجر، سواء من الاهل او المعلمين او من اولي القهر والهدر معا!