سبعة خواجات… مصر المنسية!

هذا كتاب قيم صادر عن مركز إنسان للنشر في القاهرة للصحافي والروائي مصطفى عبيد. صاحب الأعمال الجميلة مثل «هوامش التاريخ» و»مذكرات توماس راسل» حكمدار القاهرة أيام الاحتلال البريطاني ورواية «ليل المحروسة» وغيرها من الكتب والروايات. أخذني عنوانه الفرعي «سِيَر رواد الصناعة الأجانب في مصر». وكما توقعت هو ليس مجرد سيرة لسبعة رجال أعمال أجانب فقط، لكنه أيضا إطلالة رائعة على زمن انتهى.. زمن كان يجسد المعنى العميق لمقولة «مصر أم الدنيا»، وهو المعنى الذي مشى مع تاريخها طويلا، ثم انطفأ في العصور الوسطى ليعود من جديد بشكل أكثر اتساعا، مع تولي محمد علي باشا وأبنائه من بعده لحكم مصر.
جاء الأجانب إلى بلد النيل الساحرة والتسامح الكبير بين الأديان والأجناس، وحديث عظيم عنهم يتناثر بين فصول الكتاب، وكيف عرفت مصر الفرنسيين بكثافة على رأسهم السان سيمونيون في مواجهة لإنكلترا، ليحققوا مدنهم وخيالاتهم على الأرض. وجاء اليونانيون إلى الإسكندرية بعد شق ترعة المحمودية، وربط الميناء بالنيل وازدهار المدينة الجديد، وهي في التاريخ مدينتهم. ومثلهم فعل الإيطاليون الذين كانوا في الصناعة وتركوا وراءهم في البناء أعظم الإنجازات التي كان وراءها مهندسون إيطاليون صاروا مصريين ـ راجع في ذلك إذا شئت التوسع كتابا مثل «إيطاليا في الإسكندرية» لمحمد عوض أستاذ العمارة في الإسكندرية، وهو كتاب باللغة الإنكليزية أتمني أن تظهر له ترجمة في المركز القومي للترجمة. ومثلهم فعل الأرمن هروبا من مذابح العثمانيين. أما الشوام فحدث ولا حرج عن النهضة في المسرح والصحافة والسينما، ولن تتوقف بالإضافة إلى الصناعة والزراعة. مثلهم جاء اليهود الذين فروا من الاضطهاد في أوروبا، ومثلهم الأكراد وغيرهم. كيف صاروا مواطنين مصريين بحكم أعمالهم العظيمة الرائدة، واتسعت لهم الحياة الليبرالية المصرية.
يتسع الكتاب لهذا الحديث ولأعداد الجاليات وأعلامها، بينما المؤلف مصطفى عبيد يتحدث عن السبعة الذين اختارهم. حياتهم الأولى في بلادهم وأسباب هجرتهم، وحياتهم في مصر وحياة أبنائهم بعدهم. يبدأ بهنري نوس الذي أسس اتحاد الصناعات المصرية، وكان تحت اسم «جمعية الصناعات المصرية» عام 1922. رحلة البحث مضنية ومحزنة أيضا، فتقريبا كل الوثائق ضاعت، وما بقي هو ما بعد ثورة يوليو/تموز 1952 التي رأت ورأى كتابها في هؤلاء خونة ومستغلين، والأمر لم يكن كذلك أبدا.
لقد كانت إنكلترا هي التي تحتل مصر، وكانت تريدها سوقا لمنتجاتها، وكان المجتمع الأهلي وفي قلبه رجال مثل، طلعت حرب يريدون وجودا مصريا في كل شي، وانضم له أعلام من الجاليات الأخرى، منهم هنري نوس الذي ولد عام 1875 في بلجيكا ووفد إلى مصر. كانت الجالية البلجيكية من أقل الجاليات ومن بينها بزغ هو والبارون إمبان مؤسس مصر الجديدة، التي لا بد يبكي لما جرى لها الآن. حديث طويل عن صناعة السكر وما جرى لها في مصر بسبب الحرب الأهلية الأمريكية والحروب في العالم، ثم الحرب العالمية الأولى، وكيف كان هنري نوس منقذا لها.

الكتاب رحلة مع سبعة خواجات حقا، لكنه رحلة مع مصر فكريا وفنيا وإنسانيا بلغة الكاتب الجميلة، وتقصيه الحقائق كأنه يبني لك بيوتا من الخيال. إنها مصر التي افتقدناها للأسف.

اختاره أصحاب المصانع مديرا لها، وكانت إدارته سببا في إنقاذ هذه الصناعة، وأصبح بعد الحرب العالمية الأولى من أهم رجال هذه الصناعة وقائدا لها، وكيف أنه مع رجل الأعمال الإيطالي صامويل سورناجا، الذي سيأتي ذكره في الفصل التالي، انشغلا بسياسة الصناعة المصرية، أمام الواردات البريطانية، فدعوا رجال الصناعة مصريين وغربيين، وأنشأوا الجمعية المصرية للصناعات، التي تغير اسمها عام 1930 إلى اتحاد الصناعات المصرية، ولم تكن أبدا من منتجات ثورة يوليو، كما يظن الجميع، كانت مفتوحة أمام كل الصناعات المصرية، ومن أهم أعمالها حماية الصناعة المصرية من الاستيراد من الخارج.. وسيرد ذكر تاريخ صناعة السكر ودخول عبود باشا المصري فيها، وتأميم ذلك كله في ما بعد. وتوفي هنري نوس في زيارة لبروكسل عام 1938، كان عاشقا للنيل فبنى فيلا جميلة هي الآن مقر القنصلية السعودية في الجيزة.
أما الثاني فهو صامويل سورناجا، وكان رائدا لصناعة البناء والخزف، وغزا بها العالم، إذ جعل منها تجليا للثقافة والفنون المصرية من فرعونية وإسلامية، وكانت منتجاته تعرض في العالم ومصر في معارض فنية. كان رائدا في صناعة الطوب، ورحلته لا تختلف عن رحلة نوس. كان سورناجا إيطاليا. كيف لا يكون إيطاليا من يصنع الطوب، والإيطاليون يبنون كل المباني الجميلة للدولة وللباشوات وغيرهم. لقد وصل إلى مصر وهو في العشرين من عمره في عهد الخديوي عباس حلمي الذي توسع في الاستعانة بغير الإنكليز، ويحفل الكتاب بأسمائهم كما يحفل بتاريخ الجالية الإيطالية، وما جرى لهم من أزمات، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، حين تحالفت إيطاليا مع ألمانيا، لكن سورناجا وما فعله كان كفيلا بأن ينجو به من الأزمة. حديث طويل عن صناعة الطوب والخزف، وكيف تميز سورناجا، الذي توفي عام 1981. كان يهوديا إيطاليا ومثل كثير من اليهود في مصر ساهموا في النهضة بكل جوانبها الثقافية والصناعية، فلا أحد يقف عند الديانة. الثالث في الكتاب هو ثيوخارس كوتسيكا امبراطور السبرتو، كما سموه، أو الكحول، الذي على اسمه لا تزال محطة مترو قرب حلوان، حيث كانت مصانعه. كوتسيكا يوناني وقد رأى في صناعة الكحول مجالا مهما، لوجود قوات الاحتلال والحروب التي شهدت قوافل من الجنود الأجانب، ولوجود الأجانب أنفسهم فهو يدخل في صناعة الخمور، ثم الكولونيا والبارفان وغيرها. ولد عام 1857 في اليونان، وجاء إلى الإسكندرية عام 1875 بحثا عن سحر المكان والمغامرة والثروة والنجاح، وفعلها وهو الشاب الصغير.
وقد حذا حذوه يوناني آخر هو سبيرو سباتس فأنتج المشروب الوطني الذي كان يحمل اسمه بعيدا عن الخمر. مساهمات كوتسيكا لا تُنسى في ظهور هيئة الإسعاف 1916 والمستشفى اليوناني في الإسكندرية قبل الحرب العالمية الثانية، الذي تبرع له بمئتي وخمسين ألف جنيه، ولا يزال من معالم الإسكندرية، ويحمل الآن اسم جمال عبد الناصر.
الرابع هو لينوس جاش السويسري المطور الأكبر لصناعة الغزل، ومعه غيره وحكايات رائعة عن منافستهم للشركات البريطانية التي كانت تورد المنسوجات لمصر، وكيف أفلسوها حتى اضطر أصحابها لمشاركتهم في مصر، ثم شرائهم لحصة الإنكليز وتعاونهم مع طلعت حرب، وحكاية نشأة مصانع الغزل الأهلية في مصر عموما، وفي الإسكندرية وكفر الدوار، وغيرها من الحكايات التي تؤكد رغبته العظيمة في صناعة مصرية.
ينتقل الحديث إلى الخواجة الخامس جوزيف ماتوسيان الأرمني، وصناعة الدخان، ويا له من حديث مثير اختلط فيه الدخان بالفن والفنانين في الدعاية وأنواع المنتجات.. ثم السادس أرنست ترامبلي الأب الروحي لصناعة الإسمنت، الذي وصل مصر في السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر، وينتهي الكتاب الرائع بالكونت دي زغيب الشامي صانع المربى الأول الذي أقام مصنعه عام 1901، وهنا تتسع الصفحات للشوام في كل شيء.. يفتنك مجهود الباحث مصطفى عبيد في العودة إلى المراجع والوثائق، والسفر إلى أمريكا لمقابلة أحد الأبناء، والاتصال بباول هارلينج حفيد لينوس جاش، الذي وجد اسمه على مقبرة جده في المقبرة السويسرية في الإسكندرية، بعد أن زاره وكتب فوقها كلمة رثاء تضمنت بريده الألكتروني، وسافر إلى سويسرا، حيث يعيش، وكيف اتصل به مصطفى عبيد وراسله بالإيميل وعرف منه معلومات قيمة وغير ذلك. كما يكشف أخطاء بعض الكتاب الذين اعتبروا هنري نوس يهوديا وهو مسيحي كاثوليكي، وغير ذلك، ولا يفوته الحديث عن سنوات الأربعينيات، حين بدأ حزب مصر الفتاة يهاجم الأجانب، بدون تفرقة بين إنكلترا وهؤلاء البناة الحقيقيين للنهضة، وكيف تأثر هؤلاء وغيرهم، لكنهم استمروا وأعيدت الثقة بهم، لأنهم كانوا يحمون الصناعة المصرية ويبنونها، وليسوا مستغلين مثل التجار الإنكليز، وما جرى بعد ذلك لهم ولإنجازاتهم مع التأميم.
الكتاب رحلة مع سبعة خواجات حقا، لكنه رحلة مع مصر فكريا وفنيا وإنسانيا بلغة الكاتب الجميلة، وتقصيه الحقائق كأنه يبني لك بيوتا من الخيال. إنها مصر التي افتقدناها للأسف.

كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية