تاهت السبل بمقدّم أخبار سابق في التلفزيون المغربي، فجعل من «منفاه» الباريسي الاختياري منصة افتراضية لممارسة نوع من المعارضة السياسية لسلطات بلاده، بسبب خلاف شخصي مع رئيسته السابقة في القناة الأولى.
وإمعانًا في الإثارة، طار الرجل نحو مخيمات تندوف في جنوب الأراضي الجزائرية، سعيًا إلى تحقيق سبق إعلامي حول أوضاع الصحراويين هناك. لكن السحر انقلب على الساحر، إذ إن الصور التي نقلها جعلت الكثيرين يتساءلون عبر منتديات التواصل الاجتماعي: «إلى أين تذهب المساعدات الإنسانية الدولية، بما أنها لا تؤثر إيجابا على أوضاع (اللاجئين) هناك؟» وعكف آخرون على إجراء مقارنات عديدة، أولاها المقارنة بين حال الصحافي المعني حينما كان يقدم الأخبار في التلفزيون المغربي، حيث كان يظهر أنيقًا فصيحًا هادئًا، وبين حاله الراهن في صحراء المخيمات، إذ بدا غير مرتاح لسبب مجهول! أما المقارنة الثانية فهي بين مخيمات تندوف التي تحمل أسماء مدن مغربية وبين المدن الصحراوية الحقيقية جنوب المغرب.
الطريف في المسألة أن رجل دين انخرط هو الآخر في السجال السياسي، فاختار توجيه رشقات كلامية نحو الإعلامي زائر مخيمات تندوف. ومن ثم، استقلّ الداعية الشيخ محمد الفزازي سيارة، وأخذ يتجول في شوارع مدينة العيون المغربية وأزقتها، وهو يردّ على كلام المعني بالأمر واصفا إياه بـ «الهارب والمتشرد في أوروبا». ومن أطرف ما قاله: «إن هذا الأخير يقول إن المغاربة ينطقون «موريتانيا» بالطاء، فيقولون «موريطانيا»، وهذا دليل مادي ولغوي على أنهم ليسوا صحراويين». وتابع: «إذنْ، فليذهب إلى منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الإفريقي والبرلمان الأوربي، ليقدّم لها هذه الحجة الدامغة حول حقيقة نزاع الصحراء»!
في فيديو آخر، انتقل الشيخ من العام إلى الخاص، إذ بدأ الحديث بلحيته التي عيّره الصحافي «الهارب» بها ووصفها بـ»الشطابة» (أي المكنسة)، وخاطبه محمد الفزازي: «لأي شيء تصلح الشطابة؟» ليجيب: «العالم كله يعرف أن الشطابة وُجدت لتشطيب الأوساخ والنفايات والقاذورات ولتنظيف البيوت والأزقة والحارات» وأضاف قوله: «أنت تعلم أنني قادر على أن «أشطّب» بك الأرض»… واسترسل الشيخ في «تخويف» خصمه واستعراض قدرته الكلامية على إلحاق الهزيمة النكراء به وبأمثاله، مؤكدا أن «العلمانيين» يفرّون من أمامه، خشية أن يفضحهم أمام الناس… حسب ما يقول حضرته!
نشرات الأكباش!
صارت نشرات الأخبار التلفزيونية في المغرب موعدا يوميا لممارسة حصص تعذيب مسلّطة على المواطنين، وذلك بسبب تركيزها الشديد على أخبار الأكباش وسلالاتهم وأصنافهم وأعلافهم، حتى كاد ثغاء الأغنام يخرج من الشاشات، ويملأ الأزقة والشوارع التي غابت عنها هذه الأيام مثل هذه الأصوات المعتادة قبيل عيد الأضحى المبارك!
«باع… باع… باع!» أصوات تستفزّ المواطن الفقير ومتوسط الدخل وهي تتردد يوميا في التلفزيون المغربي، وأكثر ما يكون الاستفزاز حدة لدى الأطفال الذين يلحون على آبائهم اقتناء أضاحي العيد، والحال الذي يُغْني عن السؤال أن أثمان الأغنام قفزت إلى مستويات عليا غير مسبوقة لا قِبل للعباد بها؛ بينما تقول بعض الأخبار زورا وبهتانا إن كل مواطن يستطيع شراء العيد بحسب استطاعته المادية.
وإمعانًا في إغاظة المشاهد، تعمد سلسلة متاجر ضخمة مشهورة إلى تكرار بث وصلة إعلانية، بشكل مكثف، تستعرض فيها الأكباش التي تبيعها في أسواق مجاورة لمراكزها في مختلف المدن المغربية.
الكثيرون أعلنوا أنهم «مقاطعون» لعملية نحر الأضاحي هذا العام، وهم في الحقيقة «مقاطعون» لجشع الرأسماليين الكبار المسنودين من طرف حكومة زواج المال بالسلطة، ولم يعد خافيا أن حتى بعض استطلاعات الرأي تكشف عن جوانب من سريالية هذا الواقع المر، فقد خلص استطلاع أجراه «المركز المغربي للمواطنة» أن 75 في المئة من المستجوَبين «لا يعتقدون أن إجراءات الحكومة ستساهم في خفض أسعار الأضاحي هذا العام»، كما أن 57 في المئة من المغاربة يرون أن إلغاء العيد هذا العام سيخفف عنهم ضغطا كبيرا.
بيد أن حكومة عزيز أخنوش التي تزعم أنها «اجتماعية» لا تنصت إلى نبض المواطنين ولا تهمها أحوالهم، كلّ ما يهمها هو «زيادة الشحم في ظهر المعلوف» بحسب التعبير الدارج. ومنذ ثلاث سنوات، والرأي العام يكرر طلبه بأن تعلن تلك الحكومة عن إلغاء ذبح الأضاحي، لكنها تفكر فقط في ما سيكسبه التجار الكبار، وتتجاهل ما يعانيه عامة الناس.
إنها ضد مقولة «التاريخ يعيد نفسه»، فهي لا تريد تكرار سوابق تاريخية، مثل إلغاء عملية نحر الأكباش عام 1963 بسبب «حرب الرمال» ضد الجزائر، وكذلك عام 1881 وعام 1996 بسبب الجفاف.
اليوم، هناك حرب من صنف آخر، وجفاف من فصيلة مغايرة: حرب على القدرة الشرائية للمواطنين، وجفاف في جيوب الأسر المغربية، مما يؤدي إلى المزيد من سحق الطبقة الفقيرة وتفقير الطبقة المتوسطة!
بائعو الأوهام!
عبثًا، يحاول بعض تجار الأزمات في المغرب أن يخدعوا الشعب في شأن أثمان الأضاحي، مُسخّرين في ذلك مختلف وسائل الإعلام. غير أنه سرعان ما ينكشف بطلان الخدع، مثلما حدث في فيديو منتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تسأل عاملة في موقع إلكتروني بائعا في السوق عن ثمن خروف صغير، فيجيبها: 1800 درهم (حوالي 180 دولار)، فتقول له مستغربة: «ألم تخبرني قبل بداية هذا البث المباشر بأن الثمن هو 2800 درهم؟» (280 دولار) وإمعانًا في الإحراج تمدّ له السيدة المبلغ المالي قائلة: «سأشتريه من عندك بـ 1800 درهم».. فبُهت المسكين!
هكذا هم بائعو الوهم، يعلنون عبر الإعلام عن أثمان أقلّ، لكنها أكثر من ذلك في الواقع. مثلهم في ذلك مثل رجل ذهب إلى السوق، وحين فوجئ بغلاء أثمان الخضر، قال للبائع: «سمعتهم أمس يتحدثون في التلفزيون عن أسعار أرخص»، فردّ عليه البائع: «إذنْ، اذهب إلى التلفزيون لتشتري منه الخضر»!
اليوم، يمتلك بائعو الأوهام ـ من سياسيين ورجال مال وأعمال ـ تشكيلة واسعة من وسائل التأثير على المستهلك المغلوب على أمره، ومحاصرته من كل جانب؛ إذ لم يعد الأمر يقتصر فقط على الإذاعة والتلفزيون والصحيفة الورقية، بل إن لديهم مواقع إلكترونية وحسابات كثيرة مؤدى عنها في منصات التواصل الاجتماعي.
بيد أن بائعي الأوهام هؤلاء تصدُق عليهم مقولة أبراهام لنكولن: «يمكنك أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وكل الناس بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت».
كاتب من المغرب