استطاعت إسرائيل بناء علاقات متشعبة مع الدول الإفريقية في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وخاصة مع إثيوبيا، حيث تأسست العلاقات الدبلوماسية بين دولة الاحتلال وإثيوبيا خلال عام 1992 وتطورت لتشمل مستويات عسكرية واقتصادية وأمنية، لكن اللافت كان تقديم إسرائيل مساعدات عسكرية لإثيوبيا أثناء حرب الاستقلال الإريترية. وثمة دراسات إسرائيلية صادرة احتوت توصيات للوصول إلى منابع نهر النيل والسيطرة على كمية منه على حساب الحصة المصرية لسد الحاجات الإسرائيلية من المياه في مجالات الري والصناعة والشرب مع ارتفاع النمو السكاني والتطور الاقتصادي، ولهذا كان إهتمام إسرائيل في النفاذ إلى القارة الإفريقية في اتجاه إثيوبيا دولة المنبع، في ظل الأزمات المستعصية حول سد النهضة وتعبئته على حساب حصتي مصر والسودان من نهر النيل.
إسرائيل ومياه النيل
طرحت الزيارات المتكررة خلال السنوات الأخيرة لبعض الإسرائيليين لعدة دول إفريقية من حوض النيل مثل:
إثيوبيا، أوغندا، كينيا، ورواندا، أسئلة حول وأهدافها، في وقت انكشفت فيه صورة إسرائيل العنصرية، وازدادت وتيرة المقاطعة الغربية لبضائع المستوطنات من جهة وللمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية من جهة أخرى، ناهيك عن الأطماع الإسرائيلية الإستراتيجية في مياه نهر النيل. صحيح أن الأهداف المعلنة لتلك الزيارات كانت للبحث عن حلفاء جدد في القارة السمراء، بغية الحد من الإدانات الإفريقية ضد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وخاصة قتل الأطفال الفلسطينيين على مدار الساعة ومصادرة مزيد من الأرض لتهويدها، لكن لتلك الزيارات وخاصة إلى إثيوبيا دلالات وأهدافا إستراتيجية للسيطرة على مياه النيل ولم تكن بريئة، حيث كان من ضمن الوفود عدد كبير من رجال الأعمال الإسرائيليين والتقنيين في مجالي الري والزراعة.
ويذكر أن العلاقات بين إسرائيل وإفريقيا تضررت بعد حرب 1967 وقطعت دول إفريقية علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل بسبب الضغط العربي، حيث وصل عدد الدول التي قاطعت إسرائيل (35) دولة إفريقية، واستغلت إسرائيل اتفاقات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية في عام 1994 لجهة بناء جسور علاقات تجارية وعسكرية مع العديد من الدول الإفريقية، وتقديم مساعدات فنية لتلك الدول في التقنيات الإسرائيلية الزراعية المتطورة وعلى وجه الخصوص لإثيوبيا خلال فترة بناء سد النهضة ؛ وذهبت دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى أبعد من ذلك فقامت بمساعدة إثيوبيا في منظومة دفاعية إسرائيلية متطورة عن السد. وحتى لا تتهم إسرائيل أنها تقيم علاقات فقط مع الحكام الأفارقة، فإنها وسعت اتصالاتها مع باقي السكان في القارة الإفريقية، من خلال قسم التعاون الدولي في وزارة الخارجية الإسرائيلية.
وفي الاتجاه المائي ثمة مسعى إسرائيلي لم يتوقف البتة بتحريض دول حوض النيل على التصادم مع مصر والسودان حول توزيع الحصص دون النظر للحقوق التاريخية والاتفاقات المبرمة سابقاً مع الدولتين العربيتين، حيث تقوم بعض الدول الإفريقية بتنفيذ عدة مشاريع لسدود على نهرالنيل وخاصة إثيوبيا التي انتهت من بناء سد النهضة وتفرغت لتعبئته في ظل عدم وجود مفاوض عربي قوي، الأمر الذي سيؤثر على الحصة المخصصة لمصر من مياه نهر النيل، بكمية يصل حجمها إلى نحو 16 مليار متر مكعب سنوياً.
تطويق مصر والسودان
إضافة إلى مساعدة إسرائيل لإثيوبيا في إنجاز سد النهضة؛ تبنت إسرائيل إستراتيجية سياسية محددة إزاء حوض النيل، تهدف في شكل عام إلى تطويق مصر والسودان عن طريق صلاتها مع دول حوض النيل، حيث أكدت دراسات إسرائيلية عن إرسال إسرائيل خبراء في مجال المياه إلى إثيوبيا، والذين ساعدوها على إنشاء ثلاثة سدود على روافد النيل الكبرى، والتي تدخل على المجري الرئيسي في أجزاء متقدمة من جنوب إثيوبيا ثم السودان ثم مصر، وقد أقرَّت إثيوبيا بإنشائها السدود الثلاثة (بنشام- الليبرد- ستيد)بحجة توليد الكهرباء، وأقرَّت بوجود الخبراء الإسرائيليين لديها، ناهيك عن قيام إسرائيل بنشاط خطير في جنوب السودان، حيث قامت بإيقاف مشروع قناة «جونجلي» التي كانت ستوفر لمصر كميةً إضافيةً قدرها خمسة مليارات متر مكعب من المياه؛ ووضعت إستراتيجية سياسية تهدف إلى إعادة تشكيل منطقة البحيرات العظمى بما يخدم مصالحها في السيطرة على الموارد المائية، وإبقاء المنطقة كلها في صراعاتٍ طائفيةٍ مستمرة، فشهدت منطقة البحيرات منذ بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم صراعات مسلحة أثمرت مذابح بشعة راح ضحيتها الآلاف من الأرواح، في رواندا وبورندي التي اشتعل فيها القتال هناك متأثرًا بما جرى في رواندا.
والمتابع لأطماع إسرائيل المائية، يلحظ بوضوح جلي أن إسرائيل طرحت قضية مياه النيل أكثر من مرة، وطالبت بحصولها على (10) في المائة من مياه النيل، أي نحو (8)مليارات متر مكعب سنويًا لحل مشكلة الطلب المتزايد على المياه بسبب زيادة السكان في فلسطين المحتلة نتيجة الهجرة اليهودية، ولهذا سعت إسرائيل منذ عقد الستينيات من القرن المنصرم إلى التغلغل بشكل كبير في دول حوض النيل وفي شكل خاص إثيوبيا دولة المنبع، من خلال إرسال عشرات الخبراء في العديد من المجالات، مثل الزراعة والري والخبراء العسكريين وغيرهم لهذه الدول.
ويبقى القول أن أهداف الزيارات الإسرائيلية المتتالية للقارة الإفريقية متشعبة الأهداف، فثمة ماهو أمني واقتصادي، لكن الهدف المباشر هو التدخل الإسرائيلي في شؤون حوض النيل، بغية تطويق مصر والسودان مائياً، والتسبب في نزاعات قد تتـطور إلى خـوض حـروب واسعة النطاق على المياه بين دول المنبع والمصـب في حوض النيل، فالمصلحة الإسرائيلية العليا تتلخص بالتـمدد مائيا في اتجاه حوض النيل والسيطرة على كمية ماء كبـيرة على حـساب الحصة المصرية المحـددة وفق القانون الدولي.
كاتب فلسطيني مقيم في هولندا