صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمس الأول الخميس، على تخصيص يوم عالمي لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا في البوسنة والهرسك، ونال القرار 84 صوتا مؤيدا و19 صوتا معارضا مع امتناع 68 دولة عن التصويت، ليصبح 11 تموز/ يوليو من كل عام «اليوم الدولي لتأمل، وتذكر إبادة 1995 في سربرنيتسا».
تثير مسألة أن ألمانيا ورواندا، هما اللتان صاغتا القرار الآنف، بداية، التأمل والتذكر، فألمانيا كانت مسؤولة، قبل مئة عام، عن أول إبادة جماعية في القرن العشرين (1904 ـ 1908) وذلك في ناميبيا على الساحل الغربي لأفريقيا، والتي تحوّلت لسياسة تطهير عرقي، وستكون مسؤولية الحكم النازي، لاحقا، عن ارتكاب أعمال إبادة قارب عدد ضحاياها 11 مليون شخص، واستخدمت الإبادة اليهودية، ضمن حملات الحركة الصهيونية لاستيطان فلسطين ونكبتها، وإنشاء إسرائيل، عام 1948، وكلا الموضوعين أصبحا في أساس نشوء ألمانيا الاتحادية عام 1949، وهو ما يفسّر (أو لا يفسّر بالأحرى) مواقف برلين الحالية من الإبادة الجارية في غزة.
يستدعي اسم رواندا أيضا، وبشكل كبير، ظاهرة الإبادة الجماعية فقد حصدت أعمال العنف الفظيعة خلال الحرب الأهلية الرواندية في عام 1994 وخلال فترة لا تتجاوز ستة أسابيع (100 يوم) ما يقارب 800 ألف شخص (وهو معدل أعلى بخمس مرات من معدل قتلى المحرقة النازية) حين استأصلت فيها الأغلبية من جماعة الهوتو قرابة 75٪ من قبائل التوتسي، فتحوّلت البنية التحتية للبلاد إلى أنقاض، وبقي مئات الآلاف من «الناجين» يعانون آثار الصدمات النفسية والأهوال.
فاجأت مذبحة سربرنيتسا، بعد عام واحد من مذابح رواندا، العالم، وأوروبا التي كان أهلها يعتقدون أن الحرب العالمية الثانية أنهت هذه الظاهرة عندهم، لكن اندلاع الحرب في يوغوسلافيا السابقة واجتياح خلالها قوات صرب البوسنة سربرنيتسا التي كانت «منطقة آمنة» تحت حماية قوات الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي بدّد هذا الوهم. انسحبت «قوات حفظ السلام» وبدأت قوات الجنرال راتكو ملاديتش بذبح وقتل أكثر من ثمانية آلاف رجل وفتى مسلم بشكل منهجي ودفنت جثثهم في مقابر جماعية، وعذبت واغتصبت الآلاف من النساء، وأصبحت البلدة الذبيحة رمزا للتطهير العرقي في وسط القارة الأوروبية.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أحكاما بحق نحو 50 شخصا بتهم جرائم تتعلق بالمذبحة، وتمت محاكمة الجنرال الذي نفذ المجزرة، ملاديتش، وكذلك رادوفان كاردايتش، رئيس صرب البوسنة الذي أمر بتنفيذها، أحكاما عن مسؤوليتهما بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
يذكّر هذا بالضرورة، بالتهم التي ساقها مؤخرا كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، وكذلك بالحكم الطارئ لمحكمة العدل الدولية، الذي صدر أمس، ويطالب إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في رفح، والحفاظ على فتح معبر رفح لتسهيل المساعدات الإنسانية لقطاع غزة وتقديمها تقريرا للمحكمة خلال شهر عن الخطوات التي ستتخذها.
تدخلَ حلف شمال الأطلسي في البوسنة والهرسك منذ عام 1992، وقام بتوسيع عملياته الجوية ونشر ما يقارب 60 ألف جندي، وساعد الحلف الأمم المتحدة في تنفيذ قرارات مجلس الأمن، مواصلا عملياته في البوسنة والهرسك حتى عام 1995، وصولا إلى فرض الغرب اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب التي قتلت قرابة 105 آلاف شخص أغلبهم من البوسنيين المسلمين (86101 شخص) وأنشئ إثرها اتحاد البوسنة والهرسك الذي يضم وحدتين، اتحاد البوسنة والكروات، وجمهورية صرب البوسنة.
في المقابل استدعى قرار «العدل الدولية» الخاص بغزة، بسرعة، مطالبة عربية لـ«مجلس الأمن» الدولي لتحمل مسؤوليته في وضع حد لإفلات إسرائيل من العقاب وازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي إزاء غزة (وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في تصريح أمس). لكن ما حصل فعلا هو تصاعد العمليات الإسرائيلية العنيفة في رفح، وتصريحات «جنونية» كالعادة، من مسؤولين إسرائيليين، كما فعل الوزير ايتمار بن غفير بتصريحه أن «الأغيار لا يحددون» مصير إسرائيل، فيما أعلن الكونغرس الأمريكي أن نتنياهو سيلقي خطابا على مجلسيه قريبا، وأكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن بلاده لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، فيما أكد وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، أن الإدارة الأمريكية ستعمل مع الكونغرس على فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية!