سرد العائلة جزء من ديستوبيا عُنيت بها الرواية العراقية، تعكس واقعا أليما عاشه العراقيون في العقود الأربعة الأخيرة. ويركز سرد العائلة على تمزق الأواصر العائلية التقليدية بتأثير المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن الحروب والديكتاتورية؛ فالحرب العراقية الإيرانية هي التي تغيب والد خضير في «العراق سينما» ـ المعقدين ـ البصرة ـ 2020 لأحمد إبراهيم السعد، وتحل رباط الأسرة، وتفرق أفردها؛ إذ تنتهي الأم سجينة بسبب الدعارة. وينتهي الابن خضير إلى الهجرة بعد موت أخته المريضة، والموت، انتحاريا بعد 2003.
ولا وجود لوالد الراوي والشخصية الرئيسة في الرواية، لذا تحل محله الأم، المعلمة الصارمة التي تدافع عن القيم التقليدية، وتشد الابن إلى العائلة، فيما يتمرد هو عليها برفضها نفسيا عبر تخيلها، في مقطع من مقاطع روائية كثيرة يبدأها الراوي بعبارة لو كنت مخرجا، خائنة، يجدها الأب مع عشيقها، فيُحضر أخوتها لتتناوشها سكاكينهم المميتة، وليبقى هو من غير أم، ومن غير نسب معروف، ومن غير شبه بالأب الغائب.
ومثلهما، الراوي وخضير، الضابط الذي يعدم الأمن أباه الأخرس؛ لاعتقاده أن الوشم على زنده صورة للخميني، ولعجز الابن عن أن يقنعهم أنه لممثل هندي يحبه الأب. ويُنتج غياب الأب، أو تغييبه، مجتمعا مخربا، وشخصيات معطوبة، تسهم في إنماء الخراب، ومده بأسبابه؛ فالضابط الذي يروي للراوي وخضير ونجم قصة أبيه يقدم للأمن شريط إدانتهم بانتقاد السلطة ليُسجنوا! وخضير يصير مقاتلا في الجماعات المسلحة، وانتحاريا!
ومثل الأب الغائب الرجل الغائب عموما، فالمدرسة أيفين، التي يفتتن بها التلاميذ، وتجذب نظرهم صورة الرئيس المثبتة في قلادتها الذهبية والمستقرة على صدرها، يتخيل لها الراوي فارسا لا وجود له، هو ضابط في حماية الرئيس صادفها في أثناء تأمين زيارة الأخير إلى البصرة، فهام بها، وترك واجبه ليتبعها، فيعلم الرئيس ويذهب إلى مدرسة أيفين ويدعوها وأباها إلى لقائه في غرفة مدير المدرسة ليخطبها للضابط. وسرد الديكتاتور، كليا أو جزئيا، أي سواء أكانت الرواية كلها عن شخصية الديكتاتور، أم دخل الديكتاتور فيها دخولا عارضا كما في رواية السعد هذه، يُرجح ميل الرواية إلى الديستوبيا، ويشكل تأشيرا إلى الأسباب المُحركة لسرد العائلة؛ فتصدع علاقات العائلة سببه النظام السياسي، وشخصية الديكتاتور.
وتستهدف الرواية هذه، نظام التعليم التقليدي الأبوي، الذي تترتب عليه العلاقات العائلية التقليدية، فمدير المدرسة الذي ينوي معاقبة الطلبة؛ لتخطيهم نظام الدخول إلى صفوفهم بعد تجمع الصباح، ولانفلاتهم من الطابور، جريا وراء المنشورات وقطع الحلوى التي أرسلتها، من سماء المدينة، مروحيات، احتفالا بعيد ثورة 17-30 تموز/يوليو، يُفاجأ بنجم يقول له «بكلام فصيح: أنت أهنت كرامة أبناء الرئيس القائد صدام حسين (حفظه الله ورعاه) الذين هنأهم بهذا اليوم العظيم. وهي إهانة للرئيس، وعليك أن تعتـــذر منا جميعا، وتقبل أيدي أبناء الرئيس.. وعلى عكس ذلك سوف نذهب إلى أحد مقرات حزب البعث، ونشتكي عليك». ويتراجع المدير عن معاقبة التلاميذ، ويشتري لهم الحلوى، لترجح كفة التلميذ المتمرد على النظام الأبوي الصارم، وليقوى انتماء الفرد إلى عالم العبث، والفوضى، والقبح، في الواقع والمجتمع.
يعقد المعنيون بسرد العائلة، علاقة بينه وبين تصورات فرويد عن العلاقة بالأب، وسعي الابن إلى قتله. ويرتبط ذلك بنزوع الابن إلى التحرر، وإلى الاختلاف والابداع، وإيجاد هويته الخاصة. وقد يجد القارئ في الرواية شيئا من هذا؛ فسعي الأبناء لتحقيق طموحهم الفني -الراوي يريد أنْ يكون مؤلفا، ونجم مخرجا وخضير ممثلا – مرهون بتغلبهم على أوامر العائلة ونواهيها ونظامها الأخلاقي، والتربوي، والتعليمي، الذي لا يرى فيهم إلا مجموعة من الأغبياء الفاشلين، الذين تتوجب مراقبتهم، وتقييد سلوكهم.
وذلك شيء ليس ببعيد عن الرواية هذه؛ فهي تقيم نفسها، وعوالمها الديستوبية الصادمة، التي يتداخل فيها المتخيل بالمرجعي، على غياب النظام الأبوي، وعلى تدهور القيم الاجتماعية واختلالها نتيجة الديكتاتورية.
ولكنْ يبقى مُهما أنها تشترك، مع روايات عراقية أخرى كثيرة، في إدانتها الديكتاتورية، والتحذير من آثارها في الإنسان والمجتمع. ولعلها لا تريد إدانة حقبة مضت بقدر إرادتها إدانة حقبة نعيشها اليوم، لا تكاد تختلف عن سابقتها إلا بالاسم.
٭ كاتب عراقي